** تذكرون في آخر لقاء لي معكم الأحد 11 أبريل الماضي, أنني حدثتكم عن صديقنا هاني الذي راح ضحية كورونا وانضم إلي قائمة الملايين الذين اغتالهم الفيروس بلا رحمة..
** الغريب أنني فيما كنت أكتب لكم وقلبي يعتصر ألما علي صديقنا هاني الذي خطف كورونا روحه في ثلاثة أيام, وعن ابنته الوحيدة كريستين التي فقدت برحيله السند والمعين.. الغريب أنه في ذات اللحظة كان فيروس كورونا يتسلل إلي جسدي دون أن أدري..
ساعد بعد ساعة وبدأت الحرارة ترتفع, وتكسير في عظامي لا يحتمل, واستسلمت للفراش مع البدء في أخذ بروتوكول العلاج.. لكن الفيروس كان أنشط من أي مقاومة, يوم والثاني وبدأت نسبة الأكسجين تتضاءل, وفشلت كل أنابيب الأكسجين التي كانت تتبدل كل خمس ساعات في أن تعيد الهواء إلي الرئتين بعد أن غطاها الفيروس بالالتهابات.
وكان قرار الطبيب المعالج الذهاب إلي المستشفي.. وجاءت صورة صديقنا هاني في عيني وطلبت من كل الأصدقاء الصلاة ليرحمني الرب, واستجابت السماء.. رأيت يد الرب تسرع إلي وهي تصطحبني إلي أحد مستشفيات العزل ذات الإمكانيات العالية في وقت صعب فيه العثور علي مكان..
وظلت عين الرب ترعاني.. رأيتها في صرخة الأطباء بعد ثلاثة أيام معجزة.. معجزة وكنت أعتقد أنهم لا يعرفون هذا التعبير الذي كثيرا ما حدثتكم عنه في رحلاتنا مع أصدقائنا المرضي والمتألمين.
** تذكرون أننا في هذا المكان المحطة وعلي هذه الصفحة كلما التقينا كانت دعوتنا للصلاة من أجل أصدقائنا المرضي الذين يطرقون باب المحطة يلتمسون الشفاء.. وتذكرون أن الرب كان يستجيب لصلواتكم.. وما حدث مع أصدقائنا المرضي حدث معي, واستجاب الرب, وعدت لكم لأواصل رسالتي..
عدت من أجل كل مريض يتألم والرب الذي أنقذني يعينني بصلواتكم المتواصلة.. لأني أنا الرب إلهك الممسك بيمينك القائل لك لا تخف أنا أعينك (إش41:13).
صلوا معي من أجل كل مريض محتاج لمسة شفاء.. صلوا معي من أجل كل بيت مكسور وحزين فقد حبيبا.. صلوا معي ليرحمنا الرب ويرفع عنا الموت والوباء.
** عدت لأكون وأنتم معي بصلواتكم وعطاياكم مع كل مريض ومتألم.. عدت لأوراقي التي لم تنشر -لضيق المساحة- في لقائي الأخير عن صديقنا هاني الذي اغتالته كورونا وتركت ابنته العروس بلا سند..
عدت إلي بقية حديثي مع الابنة كريستين.. وها أنا أدعوكم لتسمعوا بقية حديثها علي السطور التالية.
** أخذناه إلي عيادة طبيب بالقرب منا.. مجرد أن قاس له الحرارة, صرخ فينا وقال: دي كورونا.. تنزلوا من هنا علي طول لمستشفي الحميات.. لم نعد إلي البيت في أول تاكسي وقف لنا دخلنا ورحنا مستشفي حميات إمبابة.
في غرفة الطوارئ استقبلونا بحذر شديد وكأننا الفيروس نفسه وبعد أن أخذوا منا كل البيانات منعونا من التواجد بالمستشفي.. خرجت أنا وأمي وتركناه وكانت المرة الأخيرة التي رأيناه فيها.. ظللنا من علي بعد نراقب ما يحدث, لم نجد من يعطينا أية معلومة.. لم نكن وحدنا كان المستشفي مزدحما بأمثالنا.
من بين كلمات الناس الذين سبقونا عرفت أنهم سيأخذوه إلي جناح العزل, ولا يمكن لأي أحد الوصول إليه.. حاولت التواصل معه بالموبايل, مرة يرد وعشرات المرات لا يرد.. في المرات المعدودة التي كلمني فيها عرفت أنهم أجروا له أشعة مقطعية علي الرئتين وفي انتظار النتيجة..
في مكالمة أخري عرفت أنهم وضعوه علي جهاز التنفس الصناعي.. بعدها فشلت كل محاولاتي في التواصل معه حتي بالموبايل.. عرفت أنهم وضعوا شريطا علي فمه لإبقاء الأنبوب في مكانه.. يومان فقط واتصل المستشفي بوالدتي وقالوا لها: تعالي خدي جوزك.. سألتهم بطيبة: هو خلاص خف وراح تخرجوه.. جاءها الصوت الأجش: بقولك تعالوا خدوه.. أطلقت والدتي صرخة جمعت كل سكان البيت والشارع, ولما عرفوا أن أبي كان مصابا بـكورونا انسحبوا واحدا وراء الآخر.. تجمعوا في لحظات وتفرقوا في لحظة واحدة, وجدت نفسي وحدي أنا وأمي لا نعرف ماذا نفعل.
** اتصلت بعمي قال لي: روحوا المستشفي وأنا راح أتابعكم. في طريقي للمستشفي قال لي أنا جهزت كل حاجة وراح أبعت لكم الصندوق والعربية علي المستشفي.. في المستشفي أنهوا كل الإجراءات بسرعة.. استغربت من هذا, لكن عرفت أن هذا ليس حبا فينا ولكن ليتخلصوا من الجثة, وهم لا يعرفون أنها جثة أغلي الرجال..
عاود عمي الاتصال بي, وكانت عربة نقل الموتي قد وصلت.. كان مع السائق عنوان المدفن.. في كنيسة مارجرجس بالقطامية صلوا عليه, ودفن في مدفن لا أعرفه, ولا أعرف إن كنت سأصل إليه مرة أخري.
** إلي هنا توقفت كريستين عن الكلام, وعادت تغرق في بحر من الدموع, وأنا علي الطرف الآخر أقول لها: اهدئي يا ابنتي.. تجربة صعبة سمح بها الرب, لكن اطمئني هو الآن بسيرته وبكل ما فعله من أجلك في أحضان القديسين يطل عليك ويتشفع لك ولنا.. ومن الآن أنت ابنتنا جميعا.. أنا وكل أصدقائنا صناع الخير سنكون سندا لك من بعد والدك.