القانون الأزلي للسوق يعتمد علي التوازن بين العرض والطلب حتي تستقيم العلاقة بين المنتج والمستهلك, فإذا اختلت هذه العلاقة تضطرب علاقة المنتج بالمستهلك… فمثلا إذا زاد العرض علي الطلب احتدمت المنافسة بين المنتجين وتباروا في تجويد سلعهم أو خدماتهم لاستمالة المستهلك نحوها -وتلك ظاهرة صحية مطلوبة- أما إذا زاد الطلب علي العرض فينزع المنتجون إلي الاسترخاء مطمئنين إلي عدم بوار خدماتهم -وتلك ظاهرة سلبية غير مطلوبة- فيتقاعسون عن تجويد السلعة أو الخدمة طالما يتم تصريفها واستهلاكها في جميع الأحوال.
أفتح اليوم ملف شركات نقل الركاب بالسيارات التي تعمل بموجب أنظمة الاتصال الحديثة -وأشهرها في السوق أوبر وكريم بالإضافة إلي شركات أخري انضمت مؤخرا- وهي التي تنافس سيارات الأجرة في الشارع المصري.. هذه الشركات دخلت السوق منذ أكثر من عشر سنوات وأمامها تحديات جمة لإثبات نفسها واجتذاب شرائح من المستهلكين يبحثون عن خدمة منظمة آمنة وراقية باتوا يفتقدونها بشدة في السائد من سيارات الأجرة… يفتقدون السيارات الحديثة التي تتوفر فيها معايير السلامة والنظافة ويفتقدون قائدي السيارات ذوي المظهر اللائق والقيادة الفنية المحترمة الملتزمة بقواعد الطريق وقوانين المرور ويفتقدون المعايير الثابتة المنصفة لتقدير الأجرة… هذه الشرائح من المستهلكين كانت لديها القدرة علي تحمل أجرة تزيد علي المتعارف عليه في سيارات الأجرة التقليدية في مقابل التمتع بمزايا كثيرة ضاعت واختفت من سيارات الأجرة التقليدية.
كانت البدايات أكثر من مشجعة, وتبادل جمهور مستخدمي السيارات التابعة لهذه الشركات الحديثة التغني بانضباطها ولياقة سائقيها ونظم الاتصال والحجز والسداد -التي شملت السداد الإلكتروني بكروت الائتمان- هذا علاوة علي انبهارهم باتباعها أنظمة تحديد الأماكن والوجهات بالاستعانة بالأقمار الصناعية.
إلي هنا كانت قوانين السوق متوازنة, فجمهور المستهلكين ظل موزعا بين شريحة تسمح قدرتها المادية باستخدام الشركات الحديثة وتدفع أكثر, وبين شريحة قدرتها المادية أقل وتقنع باستخدام سيارات الأجرة التقليدية بمساوئها وتردي حالتها وحالة سائقيها… لكن لم يدم ذلك التوازن طويلا فقد تعرض للاختلال والطريف أن الاختلال جاء علي أيدي سائقي سيارات الأجرة التقليدية.. فبدلا من أن يستشعروا المنافسة التي يتعرضون لها من جانب القادمين الجدد وبدلا من أن يعملوا علي تحسين الخدمة التي يؤدونها, انطلقوا يعادون سيارات الشركات الجديدة ولا يتورعون عن الاعتداء علي سائقيها متهمين إياهم بالاستحواذ علي أكل عيشهم وتمادوا في غيهم بأن استحلوا تعطيل عدادات احتساب أجرة الرحلة في سياراتهم واستعاضوا عنها بمساومات بغيضة مع كل راكب حول ما يمليه عليهم جشعهم من قيمة مبالغ فيها, الأمر الذي أدي أولا إلي معارك دائمة بينهم وبين الركاب ثم انتهي إلي عزوف الركاب عنهم بعدما تبين لهم أن الفارق بين مقابل الرحلة في السيارة الأجرة ونظيره في سيارات الشركات الحديثة آخذا في التلاشي, بل وصل في بعض حالات الجشع غير المبرر أن تتجاوز أجرة سيارة الأجرة تلك المحددة في الشركات الحديثة… وبناء عليه تحولت شريحة كبيرة من مستخدمي سيارات الأجرة إلي استخدام سيارات الشركات الحديثة… وهنا اختل التوازن في قوانين السوق, فماذا حدث؟
استشعرت شركات أنظمة النقل الحديثة الزيادة المضطردة في الطلب علي خدماتها وزحف إليها الاطمئنان لنمو نصيبها من السوق, وانعكس ذلك بالسلب علي صرامتها في مراجعة واعتماد معايير الحداثة والسلامة الفنية والنظافة ومهارة القيادة في القادمين الجدد للانضمام إلي مجموعات السيارات التي تعمل معها, فزحف التنازل والتساهل محل التدقيق وحل غض البصر محل اليقظة في التفتيش الدوري علي جودة الخدمة… وطبعا في ظل غياب القوانين وانحسار آليات حماية المستهلك تركت الخدمة الحديثة تتآكل وينطفئ بريقها… فما بين شركات شبعانة مطمئنة لنصيبها في السوق وبين ظاهرة غريبة جدا لا تحدث إلا في مصر وهي ذوبان هوية السيارات التي تعمل بنظام الشركات الحديثة مع هوية السيارات الملاكي التقليدية, إذ أنها لا تضع شارات أو علامات تلك الشركات وبالتالي لا توجد قوانين لتعقبها وإخضاعها لمعايير الصلاحية الفنية التي تطبق- إن كانت ماتزال تطبق!!- علي جميع سيارات نقل الركاب.
بالإضافة إلي كل ذلك هناك نقيصة بات يعرفها معظم مستخدمي سيارات الشركات الحديثة ما كان لها أن تستمر أو تستشري وتصبح مسكوتا عنها لولا عدم الاهتمام واللامبالاة التي تسللت إلي كفاءة الخدمة… إنها الجهل المطبق من جانب سائقيها بأدني درجات الإلمام بشبكات الطرق في المناطق التي يرتادونها, فظاهريا هم يتشدقون بأن سياراتهم مجهزة بأنظمة تحديد المواقع بالاستعانة بالأقمار الصناعية, أما الواقع المعاش فهو شيوع إخفاقهم في الاهتداء إلي تلك المواقع سواء للوصول إلي مكان الزبون طالب السيارة أو لبلوغ مقصده… وطبعا يكون المأزق شديدا إذا كان العميل لا يعرف مقصده فيقع تحت رحمة السير في حلقات مفرغة والتوقف مرارا لسؤال عابري السبيل عن الطريق وما قد ينشأ عن ذلك من اكتشافه في نهاية الرحلة أن القيمة المطلوب منه سدادها قد تجاوزت ما حددته الشركة عند طلبه السيارة ولا يملك الاحتجاج علي ذلك وعليه أن يفي بالقيمة صاغرا.
أصارحكم القول؟… أنا أسجل كل ذلك من واقع خبرة مستخدم منتظم لخدمة سيارات الشركات الحديثة, لكن حتي الآن تظل تلك الخدمة علي ترديها أفضل من العودة إلي مستنقع سيارات الأجرة التقليدية القديمة… ويبقي ذلك الواقع هو أقوي شاهد علي اختلال التوازن في قوانين السوق والسكوت الرسمي علي هوية غائبة مما يعوق فرض الانضباط.