سنحاول في هذا المقال أن نرسم صورة لجبران في شعره, وقبل أن نرسم هذه الصورة يحسن بنا الوقوف علي حياته واتجاهاته الفنية وأثاره الخالدة.
ولد جبران خليل جبران في قرية بشري بلبنان عام1883م وتعلم في مدرسة الحكمة ببيروت ثم سافر إلي بوسطن سنة 1894م, وعاد ثانية إلي لبنان حيث عمل مدرسا في مدرسة الحكمة حتي عام 1901, وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين حدثت موجة من الهجرة إلي أمريكا, وتدفقت الموجات بين الحين والآخر وتلك الموجات التي كانت ناقمة علي الأتراك المستبدين الذين كانوا ينزلون أقسي ألوان الاضطهاد بالمفكرين كما أن الحالة الاجتماعية كانت في مستوي ضعيف بلغ من هبوطه أن أدي إلي نفرة كثير من عرب الشام فرارا من الفقر الذي كان يضرب أطنابه في ربوعهم.
ومع تلك الموجات المنسابة في البحر المتوسط تجاه أمريكا هاجر جبران مع أسرته التي تركت عائلها في ثري لبنان.
مع الرابطة القلمية
واستقر المقام بجبران في نيويورك والتقي بزملائه المهاجرين وألغوا الرابطة القلمية واختير جبران زعيما لها سنة 1920 وكان من أعضائها ميخائيل نعيمة وأبو ماضي ونسيب عريضة وعبد المسيح حداد وغيرهم من كتاب المهجر وأصدروا ثلاث صحف هي السائح والفنون والسمير, وانضم إلي الرابطة القلميةأحمد زكي أبو شادي سنة 1946 وكان شعار الرابطة التجديد في كل شيء ويلاحظ أن في المهجر الجنوبي قامت العصبة الأندلسية سنة 1935 والتي كان من أبرز أعضائها ميشيل معلوف والقروي وفرحات وهذه العصبة كانت تتسم بالمحافظة والاعتزاز بالقديم مما كان يختلف عن الشمال.
آثار جبران
لجبران مؤلفات عديدة بالعربية والإنجليزية شعرا ونثرا نذكر منها الأرواح المتمردة والأجنحة المتكسرة والموسيقي, ودمعة وابتسامة, ويسوع بن الإنسان والنبي ورمل وزبد, وقد ترجمها الدكتور ثروت عكاشة, وكذلك له ديوان شعر قصير يتحدث فيه عن آماله وأحلامه وخيالاته وكما عرفنا جبران شاعرا ناثرا عرفناه رساما مبدعا إذ حاز شهادة الامتياز كما ذكرنا قبلا ومن أبدع لوحاته مريم المجدلية, يسوع والنبي العربي, والجاحظ وابن سينا والمصري والغزالي وابن خلدون
شعر جبران
ويتحدث جبران عن رسالة الشاعر فيقول أنما الشاعر رسول يبلغ الفرد ما أوصاه إليه الروح العام فإن لم يكن هناك رسالة فليس هناك شاعر, أن النثر والنظم عاطفة وما زاد علي ذلك فخيوط واهية واسلاك متقطعة, ويتحدث نعيمة في الغربال عن شاعرنا فيقول: إن جبران شاعر الليل والعزلة والوحشة واليقظة الروحية والبحر والعواصف وسنحاول أن نلقي أضواء علي شعره وهل كان مجددا أم لا؟ لقد كان جبران مجددا في شعره من ناحيتي الشكل والمضمون, فمن الناحية الأولي نجده قد خرج علي النظام المألوف في شعرنا العربي ونظام الموشحات في الشعر الأندلسي وأتي بتقسيمات جديدة مبثوتة في شعره بل أنه جمع أكثر من وزن في قصيدة واحدة كما في قصيدته المواكب ولم يكن جبران ثائرا علي القديم في الناحية الشكلية بل أنه نظم علي الأوزان التقليدية كما في قصيدته سكوتي إنشاء ومطلعها:
سكوتي إنشاء وجوعي تخمة
وفي عطشي ماء وفي صحوتي سكر ومن الناحية الثانية, نجد جبران متأثرا بالحركة الرومانسية والثورة علي الأفكار البالية القديمة وتوافه الأغراض وشعر المديح والمناسبات وتخلص كذلك زملاؤه في الرابطة منها وإن كنا نلاحظ أن البعض لم يتجرد كلية كأبي ماضي في جداوله وخمائله ووضحت عند جبران وحدة الموضوع والوحدة العربية وإن كان البعض يخلط بين هذين المصطلحين مما نود أن نتحدث عنه في مقال آخر.
وقد كان جبران ذا فلسفة خاصة في شعره فهو يعلمنا من الصخور الحكمة ومن الطين والتراب فلسفة الحياة ومن النور والظلام آيات الخلود وأوضح مثال لهذا قصيدته ماذا تقول الساقية؟
ما النبيل بالجدود
كم نبيل كان من قتلي الجدود
ما الذليل بالقيود
قد يكون القيد أسني من عقود
ما الفقير بالحقير
ثروة الدنيا رغيف ودواء
وقد كانت له جولات وسبحات مع نفسه
وكان مؤمنا بأن لها خلودا أبديا
يا نفس إن قال الجهول
الروح جسم يزول
وما يزول لا يعود
قولي له إن الزهور
تمضي ولكن البذور
تبقي وذا كنه الخلود
وهو يخلو إلي البحر ويري فيه معني كبيرا فهو مطلق لا محدود وكل شيء مهما كان إليه فالغاب والصخر والريح والنهر والطود الشامخ والفكر كلها إليه, ويشاركه أبو ماضي في نظرته إلي البحر كما في طلاسمه, وقد تأثر بفلسفة أبي العلاء ولا يري العدل والخير والدين مما يتضح في المواكب التي يقول فيها: الخير في الناس مصنوع إذا جبروا والشر في الناس لايفني وأن قبروا والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا به ويستضحك الأموات لو بعدوا والدين في الناس حقل ليس يزرعه ألا الأولي لهمو من زرعهم وطر.. وقصيدته المواكب تمثل الخروج علي الحياة المادية والهروب منها إلي الغاب والحياة الحرة الجميلة التي ليس فيها تقاتل وصراع وضجيج وكثيرا ما كان يهرب من الحضارة الماثلة أمامه ويري فيها خطرا علي الإنسان كما فعل كثير من شعراء العصر الحديث وأما الحنين إلي لبنان فقد كانت له خفقات في شعره وكذلك حبه الذي أودعه مؤلفاته النثرية وخاصةالأجنحة المتكسرة وهو يغلف الحب ويري أنه وهم لايطول وجماله ظل لايقم.
إنما الحب كنجم في الفضا نوره يمحي بأنوار الصباح وسرور الحب وهم لايطول وجمال الحب ظل لايقيم وعهود الحب أحلام تزول عندما يستيقظ العقل السقيم ويضيق بنا المقام لو تتبعنا نثر الشعري وبينا فلسفة فيه, وبحسبنا اليوم ما أشرنا إليه في شعره وتجديده شكلا ومضمونا.. وقد توفي جبران سنة 1931 عن ثمانية وأربعين عاما سجل فيها خطراته وأفكاره وفلسفته وأثر في مدرسة الشعر المعاصر مما يستحق الإكبار والخلود