من المعروف أن مستوى التعليم يعد مقياسا إن لم يكن أهم مقاييس تحضر الأمم والشعوب، فهذه حقيقة لا جدال فيها، وبالتالى فإن الأمية تعد المؤشر الأهم على التخلف والتهميش والاقصاء. وإذا كانت الأمية تعنى عدم القدرة على القراءة والكتابة، أو عدم الإلمام بمبادئ القراءة والكتابة، إلا أن المفهوم لم يعد يتوقف عند هذه الحدود التقليدية، فثمة توصيفات لأنواع أو مستويات أخرى من الأمية مثل الأمية الثقافية والأمية الرقمية، ففى العالم المعاصر تفرض التطورات العلمية والمعرفية والتكنولوجية توصيفات جديدة للأمية تواكب تطورات عالم متغير لم تعد فيه القدرة على القراءة والكتابة كافية للتواصل والاندماج الفعال. وعلى أي حال فمازال التوصيف المتعلق بالقدرة على القراءة والكتابة هوالسائد، وخاصة فى المجتمعات التى تشهد انتشارا واسعا للأمية بسبب عدم الالتحاق بالمدارس والتسرب من التعليم، أو حتى بسبب تردى جودة التعليم في العديد من المجتمعات. وعادة ما تشير الإحصاءات إلى ارتفاع نسبة الأمية بين الإناث مقارنة بالذكور وأسباب ذلك معروفة، والتي ترجع في معظمها إلى التمييز الحاصل ضد الإناث لصالح الذكور.
وعلى الرغم من كل مساوئ الأمية، إلا أن هناك مفارقة ينبغى الإشارة إليها وهي أن الأمية لعبت وما زالت تعلب دوراً في الحفاظ على التراث الثقافى الشعبى بل وعلى اللغات واللهجات المحلية في العديد من المجتمعات. وهذا الجانب “الإيجابى” لا يعني انحيازا للأمية بالتأكيد، ولكن من أجل إظهار الجانب “السلبى” لنظم التعليم والسياسات الثقافية التى أخفقت فى أن تكون وسيلة فعالة للحفاظ على التراث الثقافي الشعبي، بل على العكس ففى كثير من الأحيان كانت معادية بل ومدمرة لهذا التراث. وبما أن اللغات واللهجات المحلية والحكايات الشعبية تعد مكونا رئيسيا من مكونات التراث الثقافى، فيمكن القول أن الأمية، رغم كل ما يلحق بها من مساوئ، قد لعبت دورا محوريا في حماية هذا التراث من الزوال.
وتلعب النساء، الأميات، دورا محوريا فى حماية هذا التراث، وهذا ما تؤكده معظم الدراسات المعنية بالفولكلور والثقافية الشعبية والتى لا تخلو من إشارات واضحة إلى أن النساء الأميات، وكبيرات السن على وجه الخصوص، هن المصدر الثرى لجمع المادة العلمية للتراث الشفاهى الشعبى، فهن حافظات هذا التراث وهن أكثر من يحافظن على حياة اللغات واللهجات المحلية. إن البيوت والاحتفالات والمناسبات فى القرى والنجوع والأحياء الشعبية والمناطق الصحراوية، تبدو وكأنها مدارس غير رسمية يتعلم فيها الأطفال، قبل الالتحاق بالمدارس الرسمية، الكلام بلغة ولهجة مجتمعاتهم. وثمة علاقة عكسية بين التعلم والتمدرس والحفاظ على اللغات وربما اللهجات المحلية، فهذه الأخيرة تتوارى بفعل سيطرة اللغات الرسمية والأجنبية، وفى مصر نجد أمثلة عديدة على لغات ليس لها مكانة تذكر فى نظم التعليم أو السياسات الثقافية والإعلامية وهي اللغات النوبية والأمازيغية التي تتلاشى كجزر تتآكل بفعل نحر الأمواج والمد والجزر والتعرية الثقافية، وحتى اللغة القبطية والتي تحيا في محبسها داخل الحيز الكنسى.
إن فشل نظم التعليم والمؤسسات الثقافية والإعلامية في الحفاظ على التراث الثقافى واللغوى، يجعل من الأمية قيمة ثقافية، ولكنها قيمة هشة وضعيفة، فإلى جانب حقيقية أن الأمية فى حد ذاتها ضارة بالمعنى الاجتماعى والحضارى وسبب رئيسى للإقصاء والتهميش، فإن قدرتها الثقافية الطبيعية فى الحفاظ على التراث الثقافى تظل محدودة ومتآكلة، لأنها مسألة وقت، فالأجيال الجديدة المتعلمة تنفصل بوتيرة سريعة عن تراثها الثقافي واللغوى، وقد تعتبر التخلص من هذا التراث نوعا من الترقى الثقافي والحضاري.
والمسألة لا تنطوي على أي دعوة للحفاظ على الأمية، فهذا أمر غير مقبول وغير مفيد، فالهدف هو الحفاظ على التراث الشعبي وليس الأمية بالتأكيد، ومن ثم فإن المطلوب توسيع مفهوم محو الأمية، ليشمل محو أمية نظم التعليم والمؤسسات الثقافية والإعلامية بأن يكون لها اسهام منهجي وعادل وفعال من أجل حماية التراث الثقافى واللغوى. والأمر الذى لا شك فيه أن مثل هذا التوجه لا يعنى الحفاظ على التراث الثقافي واللغات واللهجات المحلية فقط، بل يعنى أيضا الحفاظ على اللغة الرسمية، وأعنى بذلك اللغة العربية، والتى جنت على نفسها عندما سيطرت وهمشت اللغات المحلية، وعلى طريقة “كما تدين تدان”، أصبحت اللغة العربية ذاتها ضحية اللغات الأجنبية، فهى أيضا تتآكل وتتلاشى وتتشوه. إن الحفاظ على التراث الثقافى مسئولية الدولة من خلال السياسات الثقافية والإعلامية، وليس الفئات والجماعات المهمشة.