نحن نعيش في زمن اختلطت فيه الأمور على الوالدين والأسرة فيما يتعلق بدورهم في نقل ميراث الإيمان للأبناء.. فالتغير السريع في معطيات الحياة، وتنوع وسائل الترفيه، وسرعة وسهولة الاتصال، بالإضافة إلى التأثير الهائل للميديا، وزيادة التوجه الأناني للسلوك بسبب المنافسة المادية.. كل هذه العوامل منفردة أو مجتمعة أثرت على مسارات التربية التي يتبعها الكثيرون. فالنهج تَحول من التركيز على تنشئة أبناء يخافون الله، ويقبلون تحدي السباحة ضد التيار، إلى التركيز على تحقيق إنجاز مرحلي في حياتهم يرتبط في أغلبه بالنجاح والوفرة المادية، بدون فكرة واضحة عما يمكن أن يثمره هذا الإنجاز المؤقت على المدى البعيد. ماذا يعني هذا؟ يعني أنه مع هذا التحول قد غاب الحوار بين الآباء والأبناء عن كيفية الحياة بحسب الوصايا الكتابية. هكذا أصبح أبناؤنا يصارعون أكثر من أي وقت مضى مع أفكار ضبابية لما هو صحيح، وما هو خطأ!
حقيقة لا تحتاج لبرهان أو إقناع أننا جميعًا، وبلا استثناء، لن نبقى هنا إلى ما لا نهاية.. فلا بد أن يأتي اليوم الذي فيه تغرب شمس حياتنالتشرق من جديد حيث لا غروب لها فيما بعد.. فما هو الميراث الذي سنتركه لأولادنا وأحفادنا من بعدنا؟ من اللحظة التي يُولد فيها الأبناء لا شك أننا نحلم بأن نُعطيهم لو استطعنا كل العالم، وأن نترك لهم من بعدنا ما يعينهم على حياة نتمنى أن تخلو من كل ما عانينا منه في سنوات كفاحنا.. فلا بأس من شهادة علمية «إحنا برضه بلد شهادات»، وربما ما تيسر من مال وفرناه من القوت الضروري ليبدأوا به حياتهم «فعلاً.. القرش الأبيض ينفع في اليوم الإسود».. كذلك بوليصة تأمين على الحياة «محدش ضامن الأيام».. وإذا أمكن شقة ولو في مكان بعيد «الدنيا كل شوية بتولع».. هل ممكن وظيفة ولو ميري في الحكومة «مادام بيعينوا أولاد الموظفين في المصلحة، لأن القطاع الخاص مش مضمون».. تجارة أو مصنع «هوا إحنا بنشقى، ونغامر، ونستثمر علشان مين؟».. كل هذا عظيم، ولا أحد يقلل من قدر أي محاولة مخلصة لتحقيق بعض أو كل هذه الأمنيات.. لكن يبقى السؤال: ”هل هذا كل ما يمكن أن نهتم بإعداده ليضمن لهم السعادة والنجاح في الحياة؟!“
المهاتما غاندي كتب قائمة من سبع ”خطايا مميتة“ ليحذر الآباء عما يمكن أن يُفرغ الميراث الذي قد يتركونه من قيمته.. أذكرها هنا لعلها تخاطب المهتمين منا بما سيكون عليه أبناؤنا في مستقبلهم: ”ثروة بدون عمل.. مسرة بدون ضمير.. معرفة بلا شخصية.. تجارة تفتقد للأخلاق.. علم لا يخدم الإنسانية.. عبادة بلا تضحية.. سياسة لا تقوم على مبادىء.“ لقد تعاقبت في تاريخ البشرية إمبراطوريات عظيمة، تسيدوا العالم لسنين وقرون: الفراعنة في مصر، البابليون والأشوريون في العراق، ومن بعدهم الإغريق ثم الرومان.. كل هؤلاء تركوا آثارًا لحضارات وثقافات لا مثيل لها ستبقى على مدى الأيام تشهد على عظمة ما وصلوا إليه من تقدم في أيامهم.. لكن أين هم كشعوب الآن؟ ترى لماذا اختفت تلك الممالك بالرغم من القوة والثروة والممتلكات؟
في المقابل، نجد أن شعبًا كاليهود تمتد جذور نشأتهم إلى ما قبل تاريخ بعض تلك الشعوب.. لم يكن لهم حضارة يمكن أن نجد لها آثارًا تقارن بأي من عجائب الدنيا التي خلفتها الأمم العظيمة، وبالرغم من ذلك استطاعوا أن يبقوا كجنس عبر العصور، ولم يندثروا كما حدث مع غيرهم بالرغم من كل المحاولات التاريخية لإبادتهم.. تُرى ما هو إكسير الحياة الذي أبقاهم إلى اليوم؟ في اعتقادي أن السر في بقائهم، مع أنهم أقلية تشتت في أرجاء الأرض بعد صلبهم للمسيح، هو الطريقة التي ربوا ولا يزالون يربون بها أبناءهم، والتي ارتبطت بشكل أو آخر بالتطبيق الأسري للوصية الإلهية: »اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك. لتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك، وقصها على أولادك، وتكلم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطريق، وحين تنام وحين تقوم، واربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك، واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك» (تثنية ٦: ٤- ٩). وأنا لا أخلط بين اليهود كشعب، وإسرائيل ككيان سياسي صهيوني. كما أنني لست ممَنْ يعتبرون أي بشر في حد ذاتهم أعداءً، حتى ولو كانت هناك خصومة سياسية مع حكومات بلادهم.. الحكمة تقتضي أن نستيقظ من غفلة العداء الأعمى، ونبحث عن سر قوة الآخرين ونتعلم منهم.
أبناؤنا هم الجيل القادم الذين سنسلمهم شعلة الإيمان، فأي مثاليرونه فينا يجذبهم إلى هذا الإيمان، ويدعوهم للتمسك به لينقلوه هم بدورهم للأحفاد؟ الإجابة نجدها في الرسالة إلى العبرانيين: «أما ونحن محاطون بسحابة كثيفة من الشهود، فعلينا أن نُلقي عنا كل ثقل وكل خطيئة عالقة بنا، فنجري بعزم في ميدان الجهاد الممتد أمامنا» (عب ١٢: ١ -الترجمة العربية المشتركة). مَنْ هم سحابة الشهود الذين يذكرهم الرسول هنا؟ الملائكة الذين يراقبوننا، القديسون الذين سبقونا إلى المجد وينظرون إلينا من هناك، الناس من حولنا.. وأبناؤنا في بيوتنا! فهل تستحق هذه المسؤولية العظيمة التي أعطاها الله لنا، عندما وهبنا عطية الأبناء، أن نطرح عنا كل ثقل خطية في حياتنا يمكن أن تصنع حاجزًا يمنعهم من أن يقبلوا الإيمان، وأن نتخلى عما قد يشغلنا عن القيام بهذه المهمة المقدسة، أيًا كان ما يمثله لنا من متعة أو قيمة أرضية؟ إن لم نفعل نحن هذا من أجل نقل ميراث الإيمان لأبنائنا فمن سيقوم بالمهمة بدلاً عنا؟ وإن لم نبدأ الآن هل ننتظر حتى يمضي موسم الحصاد؟