تعاقبت الأزمات والابتلاءات والمحن التي أصابت البشرية عبر تاريخها الطويل، ونزلت بالناس صنوف شتى من الابتلاء؛ كالطواعين والمجاعات والفيضانات والزلازل والجفاف وغير ذلك. وسجل التاريخ كل هذه الأحداث وكيف أثرت في المجتمع.
وقد جاء شهر رمضان هذا العام في وقت استثنائي، تحت قيود أعاقت شعائره المعتادة خلال هذا الشهر الكريم، خشية انتشار وباء فيروس كورونا. لكن هذه ليست المرة الأولى التي يحلّ فيها شهر الصوم بالتزامن مع وجود وباء، فقد أثرت أوبئة كثيرة على المصريين خلال شهر رمضان، على اختلاف الظروف التاريخية، فمسّت جوانب الحياة على اختلافها وأثرت فيها، وليس الصوم والشعائر الدينية فقط.
وقد قدم المؤرخون الذين عاصروا تلك الأحداث صوراً متنوعة عن تلك الأوبئة وآثارها وعواقبها، مثل الجبرتي والمقريزي وابن كثير وابن بطوطة وغيرهم، ونظراً لما تركت تلك الأوبئة من آثار في مصر انعكست على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع المصري، فلابد من تناولها والاهتمام بدراستها.
ومن الأوبئة التي عرفها المصريون خلال التاريخ كانت الطاعون، والكوليرا، والجدري، والجذام، والملاريا وغيرها، وكان الطاعون الأشد وطأة بينها، لأنه انتشر على نوبات متكررة عبر عدة قرون، وأودى بحياة كثر، من مصر إلى الشام والعراق والحجاز.
– شهر الصوم في فترات الأوبئة:
صادف مجيء شهر رمضان مع ظهور الأمراض والأوبئة عدة مرات كانت أولهما عام 749هـ حيث تفشي مرض الطاعون الذي سمي بـ “الوباء العظيم” حيث كان من أكثر الأوبئة فتكاً بالبشرية، ووقع ببلاد الشام ومن ثم انتقل إلى مصر، وتسبب في وفاة الآلاف، ويذكر المقريزي في كتابه “السلوك لمعرفة دول الملوك”، إن الطاعون ضرب مصر سنتي (749هـ، و787هـ)، وذكر “أن الناس هُرعت للجوامع للصلاة والقنوت والتضرع إلى الله برفع البلاء، مع قراءة صحيح البخاري بالجامع الأزهر أياما، والدعاء بعدها لرفع الطاعون”، كما كان الناس يخرجون للصحراء يصلون بها وراء أئمتهم، ويستصرخون الله لرفع البلاء.
وفي عام 1348م، ظهر وباء الطاعون مرة اخري، وتشير السجلات التاريخية، إلى أنّه تزامن تفشي الوباء مع قدوم شهر رمضان الذي حلّ بين منتصف شهري نوفمبر وديسمبر من نفس العام، وطال الوباء بشكل خاص سوريا ومصر، وتوفي مئات الآلاف، وقد شاهد الرحالة الشهير ابن بطوطة في الشام ما تسبب فيه هذا الوباء من وفيات، ودوّن رؤيته لشعائر الصوم والمواكب الدينية التي كانت تهدف لدرء الطاعون.
وكأنه سيناريو مكرر بنفس أحداثه، حيثُ عاشت مصر مثل هذه الأجواء في فترة زمنية سابقة، وبحسب ما ذكره ابن كثير في كتابة “البداية والنهاية”، فإن الشاعر صلاح الدين الصفدي صاحب كتاب “التذكرة” مات في فترة وباء الطاعون سنة 1391م، الذي اجتاح الشام وفلسطين ومصر، ووصل أوروبا، وسمي “الوباء العظيم”، موضحا: “وفي شهر رمضان تفاقم الحال بسبب الطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون، لقد فقد منهم من مستهل شعبان إلى مستهل رمضان نحو الألف نسمة خبيثة، كما أخبرني بذلك القاضي صلاح الدين الصفدي وكيل بيت المال، ثم كثر ذلك فيهم في شهر رمضان جدا، وعدة العدة من المسلمين والذمة بالثمانين”.
وفي عام 1947 ظهر وباء الكوليرا وتفشي بمصر وأدى إلى موت الآلاف من الضحايا، والآن تكررت القصة مرة أخرى بعد مرور 70 عامًا، وتزامنت احتفالات شهر رمضان هذا العام مع انتشار فيروس كورونا المستجد.
– الإجراءات الاحترازية قديما وحديثا:
كان للعلماء والأطباء العرب القدامى مسيرة طويلة مع مقاومة الوباء، وحاول بعضهم تقديم نصائح للتعامل مع الأوبئة، ولعل بعضهم يتم تدريس ما قدموه للبشرية من علم، وكان من هؤلاء الطبيب العربي ابن سينا، الذي قدم نصائح للوقاية من الطاعون بعد أن وصفه بـ “الموت الأسود” تتشابه إلى حد كبير مع النصائح المقدمة حاليا للوقاية من فيروس كورونا المستجد (كوفيد- 19)، وهو ما دفع البعض للحديث عن “تنبؤ” ابن سينا بفيروس كورونا منذ 10 قرون.
يقول ابن سينا: “توصلت لنتيجة تفيد بأن جميع الأمراض المعدية تنشأ وتنتشر بواسطة مواد صغيرة جدا (فيروسات) وغير مرئية بالعين المجردة، أعدادها هائلة وهي تسبب الحمى والموت الأسود (الطاعون).. وتلتصق هذه المواد بكل شيء (يديك ووجهك وشعرك وملابسك)”. وكان ابن سينا توصل إلى طريقة لعزل الناس لمدة 40 يومًا، ومن هنا جاءت فكرة الحجر الصحي، وانتقلت إلى إيطاليا عبر تجار البندقية في القرن الرابع عشر الميلادي، حيث كانوا يعزلون ركاب السفن في جزر قريبة لمعرفة إذا ما كان لديهم أعراض الطاعون، قبل أن يسمح لهم بالوصول لشواطئ المدن أثناء الوباء أو الموت الأسود الذي اجتاح أوروبا بين عامي 1347 و1352 ليقضي على قرابة 30% من سكان القارة، أي قرابة عشرين مليون إنسان.
كما أنّ الأطباء على مر العصور كانوا ينصحون الناس برشّ الخلّ في البيوت، إلى جانب تطهير الهواء. كما نصحوا الناس بالتقليل من الأنشطة الجسدية، والذهنية، مثل الحركة المكثفة، والإفراط بالأكل، وطلبوا من الناس ألا ينغمسوا بالقلق، والخوف، ويستبدلوهما بأفكار إيجابية، لأنّها تساعد الجسم على مقاومة المرض.
جدير بالذكر أن الطب لم يكن المرجع الوحيد في مصر عبر التاريخ، لمواجهة الأوبئة، فقد كان الناس ينظمون الصلوات الجماعية، إلى جانب الصوم، وتلاوة القرآن، وتقديم الأضحية، والصدقة، وإطعام الفقراء، والعفو عن السجناء. وكثرة الصلوات في ليلة القدر، والإيمان بالقدرة الشفائية للقرآن، ولتلاوة “أسماء الله الحسنى” وصلوات أخرى. وكانوا ينصحون بكتابة الآيات على قطعة ورق، وتذويب الحبر في الماء، ومنحه للمريض كي يشرب.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فقد قامت الحكومة بعد انتشار فيروس كورونا إلى اتخاذ عدد من الإجراءات الاحترازية التي تطابق بعضها تمامًا مع الماضي، وذلك في محاولة للتعايش مع أزمة فيروس كورونا المستجد في شهر رمضان، ومن أهم هذه القرارات هي: السماح بأداء الصلوات في المساجد وكذا صلاة التراويح خلال شهر رمضان، بشرط تطبيق جميع الإجراءات الاحترازية، والالتزام بالتخفيف في صلاة التراويح، بحيث لا تزيد عن نصف ساعة، كذلك عدم السماح بإقامة أي موائد رمضانية، و عدم السماح بالاعتكاف أو صلاة التهجد في المساجد، أيضًا التأكيد على حظر إقامة أية تجمعات كبيرة في الأماكن المغلقة، مثل سرادقات العزاء، أو إقامة الاحتفالات في دور المناسبات، مع التأكيد على أن تكون هناك متابعة مستمرة من وزارة الأوقاف والجهات المعنية لتطبيق هذه الإجراءات والالتزام بها. بالإضافة إلى تطبيق المواعيد الصيفية لغلق وفتح المحلات والمطاعم وخلافه، بداية من السبت 17 إبريل المقبل، وتكليف وزيري السياحة والآثار والتنمية المحلية بإصدار القرارات اللازمة. هذا بجانب استئناف المسابقات الرياضية المختلفة للناشئين، لمنح الحافز الرياضي لطلاب المراحل التعليمية المختلفة، وعدم السماح بإقامة الدورات الرمضانية في الأماكن المفتوحة أو المغلقة.
Attachment