كان فجر القرن التاسع عشر هو ليل الشعر الإنجليزي, فقد مات كيتس وشللي وبيرون, وكان وردزورث كشاعر في عداد الموتي, ولم تبق من الشعر بقية سوي تلك التي تقف عند السطوح دون الغوص إلي الأعماق.
وهكذا طلع تنيسون علي عصر ذبلت أشعاره, وكان عليه أن يعيد الحياة إليه, ويمضي بالشعر إلي وضع أفضل ما استطاع إلي ذلك سبيلا, وفعل, فكان حسا ومعني.. أمير الشعراء!!
ولم يكن لتنيسون أن ينقل الشعر الإنجليزي هذه النقلة الواسعة, وينتقل به من عصر إلي عصر لولم يعزف علي أوتار نغمة جديدة لم تألفها الأسماع قبلا, صحيح إن النغمة لم تكن أعزب من ألحان كيتس وشللي وبيرون, وصحيح أنها لم تكن أقوي من أوزان تشوسر وسبنسر ودون ولكنها كانت جديدة علي كل حال, وبقدر ما كانت جديدة بقدر ما تعلق الناس بها..
برع تنيسون في استخدام الألفاظ الموسيقية حتي جاءت قصائده بمثابة ألحان مرصعة بالألفاظ. وكانت الأنماط الميتافيزيقية التي كتبها بن جون دون, وليس أدل علي ذلك من القصائد الأرنيرية والقصائد المعروفة باسم الإيداز.
وتنيسون تتمثل أشعاره في ما يمكن تسميته بشعر المشكلة, أو الشعر ذي المشكلة, حيث جعل تنيسون مصبر الإنسان موضع استفهام وموضوعا لسؤال, وحاول أن يكشف عن نسيج وجوده, ويحدد موطنه, ومنزلته من دائرة الخليقة, وموقفه من التاريخ عموما, ومن الحضارة الصناعية بوجه خاص.
وهكذا اسكت تنيسون ما وجدناه عند شعراء البحيرة من أنين رومانتيكي استغرق في التألم, وأغرق في الألم, وجعلنا نصغي إلي عواء الطبيعة وهدير التاريخ.. وحشرجة الإنسان.
فحيث تكون العاطفة نابهة مرهقة, فهناك النزاع الأليم, فإذا رافقتها الحرية والذكاء فهناك محنة بل هناك مأساة وهكذا جاءت قصيدتنا لوكسلي هول وفي الذكري.
ولكن كانت القصيدة الأولي ضحلة إذ عرفت حياة العصر دون أن تتعرض لمشكلاته, وعبرت عن فكرة التقدم دون أن تتقدم علي ذلك, وكانت الثانية عميقة نفاذة, إذ حاولت الغوص في الأعماق, والنفاذ إلي الباطن, والخروج بروح العصر العميقة.
وكان تنيسون شاعر عصره فقد أثرت نتائج العلم في نفسيته وأهاجت من شاعريته وجاء شعره تصويرا لها.
فلئن عبر شكسبير عن الثورة الفكرية عند بيكون في القرن السادس عشر, وعبر جون دون عن الثورة الفلكية عند كوبرنيكس في القرن السابع عشر.. وعبر تومسون عن الثورة الفيزيقية عند نيوتن في القرن الثامن عشر, فقد جاء تنيسون تعبيرا عن الثورة البيولوجية عند دارون في القرن التاسع عشر وانعكس هذا بشكل صارخ في قضيته في الذكري.
ففيها يتحدث تنيسون حديث الشاعر وهو أليم, عن مشكلات الحياة والموت, عن نوازعه الحائرة بين الشك والإيمان, عن الأبدية والفناء وإذا بالطبيعة تبدو له مخضبة بالدماء نابا ومخلبا فيصيح:
آلاف الأنواع قد فنيت..
وأنا لا أبالي فالكل فان
ثم يحاول أن يبحث عن السلوي, وهو المطعون بسكين يقطر دما فلا يجدها, وإنما يجد:
إن الشك الصادق هو الإيمان..
الذي لا ترقي إليه نصف عقائد البشر.
ولكنه يعود فيجد نفسه مضيعا في صحراء ما لها تخوم, يبحث عن اللاموجود, وينادي من لا يلبي النداء:
بعد أن ضاع نصف إيماني..
أمد يدي العاجزتين..
أتحسس بهما طريقي في الظلام.
فلا أقبض إلا علي الريح. ولا أحصد إلا الهشيم..
وما كان النصف الثاني ليقوي علي البكاء والشاعر يتأمل جثة. فيشعر أن شيئا فيه أضحي جثة:
وقد ابتلعنا المكان الرحيب..
وغرقنا في أمواج ماض رهيب..
كلنا صائر إلي نعش كبير..
ولكنه يرتد قليلا جدا مخافة أن يكون العمي في عينه هو.. والعيب في نفسه لا في الأشياء:
إن النفوس الضعيفة لا تقوي علي الصراع..
والعقول الصغيرة لا تتسع لفهم النقائص.
ثم يخلص إلي إيمان بائس.. لا يحاول فيه أن يعرف بقدر ما يحاول أن يرتاح.
عسير علي فهمي أن أؤمن بوجود الله..
ولكن أعسر علي فهمي ألا أؤمن بوجوده..
تلك هي القصيدة التي تحدثت عن الفناء وهي الخالدة, ووصفت الصمت وهي الناطقة وجاءت تعبيرا عن الحاضر مع أنها قيلت في الذكري.
ولقد بلغ من صدق تعبيرها علي خلجات صاحبها, وخلجات عصره, إنها أصبحت في وقت واحد قصيدة صاحبها, وقصيدة العصر كله… وتنيسون إذ يتحدث فيها عن موت صاحبه آرثر هالام.. إنما يتحدث أيضا عن موت عصره.. وإذ يرثي صاحبه فهو يقدم الرثاء لعصره..
والحقيقة أن تنيسون استحق العالمية بمزاياه الإنسانية التي جعلها ذات دلالة حتي تشمل الآخرين.. وتشمل العصر كله.. وهذه هي غاية الشعر.. وتلك هي آية الشاعر!!