إن شعرت بالجوع, لا تهرب منه.
لا تهرب من الشعور بالجوع, عن طريق الانشغال ببعض الاحاديث, أو ببعض المسليات, أو عن طريق النوم, لكي تمضي فترة الجوع دون أن تشعر بها.
فأنك بالهروب من الجوع, إنما تهرب من بركاته ومن فوائده الروحية, وتهرب من التدريب علي فضيلة الاحتمال وفضيلة قهر الجسد.
إننا نريد أن نستفيد من الجوع, وليس أن نهرب منه إن ضغط عليك الجوع, قل إنك لا تستحق الأكل.
قل لنفسك: أنا لا أستحق أن آكل بسبب خطاياي.
وهكذا تنسحق نفسك من الداخل, في الوقت الذي يسحقها فيه أيضا تعب الجسد, وهكذا تتخلي عنك الكبرياء والخيلاء والعجب بالذات. وإن صليت تصلي باتضاع.
أما الذي يقف ليصلي وهو في عمق القوة. بصحة كالجمل أو كالحصان وقوة كالحديد.. هذا من أين يأتيه الانسحاق؟!
إن دقيقنين تصليهما وأنت جوعان, أفضل من ساعات صلاة بالشبع.
وفي الواقع أن الجوعان يشتاق أن يصلي. أما الشبعان فكثيرا ما ينسي الصلاة. ولذلك غالبية المتدينين يصلون قبل الأكل وقليلون هم الذين يصلون بعد الانتهاء من الأكل أيضا إلا في الرسميات.
تدريب الجوع في الصوم, ينبغي أن يكون بحكمة.
حقا إن الذين شعروا بالفائدة الروحية التي تأتي من الجوع, كانوا يطيلون مدته.
علي أني لا أقصد بهذا التدريب المبالغة فيه, بحيث يصل الصائم إلي وضع لا يستطيع أن يقف فيه علي قدميه للصلاة من شدة الإعياء, وقد يفضل أن يصلي وهو ساجد, ليس عن خشوع وإنما طلبا للراحة واسترخاء الجسد في تعبه.
إنما يجب السلوك في هذا التدريب بحكمة, في حدود احتمال الجسد. ومع ذلك أقول لك كلمة صريحة وهي لا تخف من الجوع, فهو لا يستمر معك.
فالمعدة كلما تعطيها أزيد من احتياجها تتسع لتحتمل ما هو أكثر.. ويزداد اتساعها في حالات الترهل, مع ضعف جدران المعدة. وإن لم تعطها ما يصل بها إلي الامتلاء تشعر بالجوع.
فإن صبرت علي الجوع, ولم تعط المعدة ما يملؤها, تبدأ في أن تكيف نفسها وتنكمش. وبتوالي التدريب لا تعود تتسع لكثير… ولا يستمر الجوع, فالقليل يشعرها بالشبع.
والإنسان الحكيم هو الذي يضبط نفسه, ويحفظ نظام معدته. فهو لا يكثر من تناول الطعام حتي تترهل معدته, ولا يبالغ في منع الطعام عنها بحيث تنكمش إلي وضع أقل من احتياج جسده.
فالاعتدال في هذا الأمر نافع وفيه حكمة.
* الصوم والسهر
الامتلاء بالطعام يساعد علي ثقل الجسد, وبالتالي علي النوم. أما الصائم فيكون جسده خفيفا, غير مثقل بعمليات الهضم, ويمكنه السهر.
والصوم مع السهر يعطي استضاءة للفكر.
وكل القديسين الذين أتقنوا الصوم, اشتهروا أيضا بالسهر.
نلاحظ أن التلاميذ بعد العشاءين, ثقلت عيونهم بالنوم وهم في البستان, ولم يستطعوا أن يسهروا مع الرب ولا ساعة واحدة مت 26: 40.
وأنت يا أخي, ليس من صالحك أن يأتي الختن في نصف الليل فيجدك نائما. بينما الكتاب يقول, طوبي لأولئك العبيد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين, (لو 12: 37).
تدرب أذن علي الصوم, فالصوم يتمشي مع السهر.
ونقصد بالسهر, السهر مع الله, وقضاء الليل في الصلاة.
فائدة الصوم.. وروحانيته
* نوع الطعام
تحدثنا في الصوم عن الجوع وفترة الانقطاع, بقي أن أحدثكم عن نوع الطعام. ويهمني هنا أن أذكركم بقول دانيال النبي عن صومه:
لم آكل طعاما شهيا ( دأ 10:3).
لذلك إن صمت وأعطيت جسدك ما يشتهيه, لا تكون قد صمت بالحقيقة. ابعد إذن عن المشتهيات لكي تقهر جسدك وتخضعه لإرادتك. لا تطلب صنفا مختارا بالذات, ولا تطلب أن تكون طريقة صنع الطعام بالأسلوب الذي يلذ لك. وإن وضع أمامك ـ دون أن تطلب ـ صنف من الذي تحبه نفسك, لا تكثر منه في أكلك…
ولا أريد أن أقول لك كما قال أحد الآباء القديسين: إن وضع أمامك طعام تشتهيه, فأفسده قليلا ثم كله. ولعله يقصد بإفساده, أن تضيف عليه كمثال شيئا يغير طعمه…
علي الأقل: مثل هذا الصنف المشتهي, لا تأكل كل ما يقدم لك منه. وكما قال أحد الاباء ارفع يدك عنه, ونفسك ما تزال تشتهيه. أي أن جسدك يطلب أن يكمل أكله من هذا الصنف, وأنت تضبط نفسك وتمنعها عنه.
هنا ونقف أمام أسئلة كثيرة قدمها البعض:
هل النباتين والمسلي الصناعي يحل أكله في الصوم أم لا؟ هل السمك نأكله في هذا الصوم أم لا نأكله؟ ما رأيك في الشيوكولاتة الصيامي؟… إلخ.
أسئلة كثيرة يمكن الإجابة عليها من جهة تركيب تلك الاطعمة, ويمكن من ناحية أخري أن تبحث روحيا:
فالسمن النباتي, أن كانت مجرد زيت نباتي مهدرج تكون طعاما نباتيا يتفق مع حرفية الصوم. أما إن كنت تأكلها شهوة منك في طعام السمن, فالأمر يختلف: تكون من الناحية الشكلية صائما, ومن الناحية الروحية غير مستفيد.