يقول الرب علي لسان إشعياء النبي:أليس الصوم الذي أختاره يكون في فك قيود الشر, وحل عقد النير وإطلاق سراح المتضايقين, وتحطيم كل نير؟ ألا يكون في مشاطرة خبزك مع الجائع, وإيواء الفقير المتشرد في بيتك وكسوة العريان الذي تلتقيه, وعدم التغاضي عن قريبك البائس(إش68:6-7).
هذه الكلمات تلخص لنا معني الصوم الحقيقي.
يحكي عن أحد النساك الذي قضي حياته كلها لا يتناول طعاما إلا مع غروب الشمس, وكان طعامه رغيفا من خبز وقليلا من الماء.
والعجيب في الأمر أن الناسك كان يوفر لقمة من كل رغيف, يضعها جانبا, حتي إذا تجمع لديه مقدار رغيف منها, تناولها وتصدق بالرغيف الكامل علي فقير محتاج.
إنه حقا مثال في الزهد والعطف علي المحتاجين والفقراء في آن واحد.
هذا هو المعني الرائع للصوم الحقيقي, أي ما نحرم منه أنفسنا بالصوم, ليس الهدف منه أن يعود علينا فيما بعد, ولكن لخير الآخرين, ما أعظم قلب الإنسان حينما تمسه الرحمة وتعزف علي أوتاره الحساسة, سيصبح ينبوعا فياضا بالحب والرحمة والإنسانية, لن تقف أمامه عراقيل أو صعوبات في إيجاد شتي الطرق لإسعاف المحتاجين, ولكن إذا تحجر قلبه, فلن يلتفت لأي فرصة يستطيع بها الوقوف بجانبهم والشعور بهم.
لذلك كل شخص منا يستطيع أن يسأل ذاته:كم من مبالغ ينفقها في شراء أشياء لا فائدة منها, في حين أن هناك جياعا وعطاشا لا حصر لهم, لايجدون ما يسدون به جوعهم وعطشهم؟ من منا لا يطعم الفقير, سيكون سبب جوعه وشقائه, كما أننا عندما نتواني في مساعدة المريض, فنحن بذلك نشارك في القضاء عليه, كم من فقراء ومحتاجين لا يجدون ما يستر عريهم أو يسد حاجتهم من علاج ورعاية طبية؟ كم هؤلاء الذين لا سقف لهم أو منزل يسترهم, ينامون في العراء؟ لذلك نستطيع أن نجزم بأنه لو كل شخص منا في زمن الصوم, قصد بأن يوفر ما يبدره سدي, ليساعد به من هو بحاجة إليه, لما بقي فقير في محيطنا أو في أي مكان آخر, ولا وقع بائس تحت ضغوط الحياة التي تحرمه من ضروريات المعيشة الآدمية.
ونقرأ في سفر طوبيا:تصدق من مالك, ولا تحول وجهك عن فقير.
وحينئذ وجه الرب لا يتحول عنك(طوبيا4:7).
إذا نستطيع بالصوم الحقيقي أن نسيطر علي ما هو ضار في علاقتنا بالله والناس,لأن التحكم بسلوك الإنسان بأكمله, ينبع من السيطرة علي القلب الذي يعتبر المحرك الأول في حياة الإنسان فكل ما نقوم به يأتي بدافع من القلب أو رضا عنه,فإذا فسد القلب دمر حياة الإنسان كلها, وإن صلح أشرقت الحياة وعمت السعادة بين الجميع, وأنار الطريق أمامه في علاقته بالله والناس.
إن الإماتة والحرمان الاختياري يقويان الإرادة والسيطرة علي الذات, والتغلب علي الميول السيئة, كما أنهما يساعدان الإنسان في السمو بتصرفاته, فالصدقة التي نقدمها لكل محتاج, ليست سخاء منا, بل هي واجب مقدس مفروض علينا, ودين في أعناقنا نوفيه لصاحبه.
كما أن الفقير المحتاج والمريض العاجز واليتيم وغيرهم خير دليل علي وجود الله في حياتنا,لأن ما نقوم به نحوهم من عمل خير وإحسان, نصنعه مع الله ذاته, الذي لايتركنا بدون مكافأة عظيمة في هذه الحياة والآخر.
وكما يقول السيد المسيح:من سقي أحد هؤلاء الصغار,ولو كأس ماء بارد لأنه تلميذ, فالحق أقول لكم إن أجره لن يضيع (متي10:42).
من يتابع المناسبات الكبري والموائد الفخمة فيها, يري ما يخجل العين من شبعي يأكلون حتي التخمة ويمرضون بسبب كثرة الطعام, ولايفكرون في الملايين الذين يموتون جوعا, والمرضي الذين لايجدون ثمن الدواء الذي يخفف آلامهم. لكن الإنسان الذي يضحي بكل حرية وإرادة, يصنع الخير ويجني ثمار الحرمان الطيبة أي التقرب إلي الله.
إذا نستطيع أن نعتبر الصوم تدريبا للإنسان علي التجرد من بعض الأشياء والأنانية وحب التملك, ويصبح شخصا جديدا محبا للعطاء ومساعدة الغير,لأن القيمة الحقيقية للإنسان ليست في إحساسه بنفسه, بل في عطائه للآخرين, وخاصة إذا أعطي بسخاء من قلبه وعقله وماله, وفي نفس الوقت لايقدم فواتير الحساب عما فعل إذا الصوم الحقيقي هو سعي الإنسان بكل ما يستطيع لإسعاد الآخرين.
ونختم بقول أحد النساك:من أراد أن يكون قلب الله مفتوحا أمامه, لايغلق قلبه لمن يتوسل إليه.