العالم أصبح مرعبا, والموت قريبا جدا, أقرب من الأنفاس للصدور, الوباء يجتاح الاجساد, لا يفرق بين قوي وضعيف, أو شيخ وشاب, أو غني وفقير, لكن يظل العدد الأكبر من الضحايا واقعا بين الفقراء, الذين يموتون دون ضجيج, بعيدا عن المشافي, وبعيدا عن نشر صورهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي, وبعيدا عن الفحوص الدقيقة, يموتون وقد لا يعلمون أنهم مصابون, لأنهم هكذا يحيون: صداع يساوي قرص أسبرين, مغص يساوي كوب من النعناع, وهكذا إلي سائر الأعراض التي قد تكون إشارة قوية علي الإصابة بكورونا في موجتها الثالثة, وللأسف يترك البعض تلك الأعراض حتي تتفشي وتخرج عن السيطرة.
حكايات طويلة, عميقة, مؤلمة, لكنها من جوف المجتمع الذي نحيا فيه, عيسي بطل إحداها, حاول عيسي الاتصال بي مرات ومرات, كان هاتفي مغلقا بفعل السقوط اللعين والمتكرر لشبكة المحمول, وبعد ساعات طويلة كانت الواحدة صباحا وصلتني رسائل تلو رسائل, استغاثات, من عيسي ابن المنيا, لم يكن الوقت مناسبا للاتصال به, وقع قلبي في قبضة الرعب علي حال شقيقته, التي ساهمنا في إجراء جراحة لها في العام الماضي بعدما انكسرت ساقها واحتاجت لتركيب شريحة ومسامير, ظللت أخمن حتي الصباح ماذا حدث, فكل أحوالهم مضطربة, وأسرتهم أفقر من الاشتباك في مشكلة, في الصباح اتصلت به لأطمئن فقال لي: أبويا يا استاذة في مستشفي العزل وأكسجينه 30% وقالوا لنا لازم ننقله مستشفي تانية في عربية إسعاف مجهزة, لأنه لو اتشال من علي جهاز التنفس ممكن يموت, عايزين حد ينجدنا.
أقنعته بالعدول عن فكرة المستشفي الخاص والامتثال للمتاح, فأخبرني أن هذه توصية المستشفي الحكومي بسبب سوء حالته, ولا أعلم ما الفارق في زمن الأوبئة بين الخاص والحكومي, وكيف يتم السماح بوجود هذا الفارق فالأوبئة لا تفرق بين غني وفقير في الإصابة, لكن اختلاف جودة الرعاية الصحية قد يتسبب في نجاة شخص أو تخفيف الأعراض والخسائر الجسدية, وقد يترك آخر فريسة للوباء ينهشه. ما علينا انتظرنا حتي المساء لتأتيني المكالمة المشئومة, عيسي يبكي: أبويا مات.
لم أعد أعرف لماذا يسبقنا العجز دائما؟ لماذا يهزمنا وينال منا؟ فالموجة الثالثة تضرب بقوة, والناس لا تعلم ماذا تفعل, المصابون يعزفون عن اللجوء للمشافي في بداية الإصابة, فنحن جميعا ننتمي لثقافة الموت فوق الفراش في منازلنا أهون من الشفاء بعد حين في المستشفي, وهي ثقافة خاطئة, تسببت في تدهور عدد كبير من الحالات ووصولها متأخرا لتلقي الرعاية الصحية, الأمر الذي تسوء معه حالات كثيرة.
الفترة المقبلة هي الأخطر في معركة كورونا, ستون يوما قادمة, تبدأ من يومنا هذا حتي نهاية شهر مايو عدم الالتزام خلالها قد يكلف الكثيرين حياتهم. هذه المعلومات من تصريحات المسئولين, فالدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار رئيس الجمهورية قال: من الملاحظ زيادة في أعداد المصابين بكورونا والزيادة ملاحظة في الأسبوع الأخير. وزيادة نسبة الإصابات في الأسرة الواحدة أما وزيرة الصحة دكتورة هالة زايد فقالت: أعراض كورونا الجديدة في مصر خلال موجتها الثالثة, ارتفاع درجة الحرارة, الغثيان, الحمي, الصداع, آلام في البطن, فقدان حاستي الشم والتذوق, التهاب شديد بغشاء العين, انتشار طفح جلدي, تأثر حاسة السمع, حدوث ألم وخفقان, تعب وألم شديد بالجسد.
تلك الأعراض شعر بها كمال, لم يكن يعلم أنه مصاب بكورونا, هو شاب في بداية الأربعينات, لديه ابن وابنة في سن الطفولة, اعتمد علي شبابه, قائلا في نفسه إن لديه حصانة تستند لمناعة الشباب, وبدأ البروتوكول المنزلي, يوما بعد يوم والأعراض لا تنطفئ بل تشتعل وتزيد, وبعد أسبوعين من العلاج المنزلي, تدهور الحال, لم يلتقط أي من أفراد الأسرة العدوي منه, لكن الوضع أصبح سيئا للغاية, وانتهي بإيداعه مستشفي عزل حكومي, ظل راقدا معصوب العينين بسبب الخراطيم الممتدة من أنفه وفمه حتي رئتيه, إلي أن التهم الفيروس رئتيه, بعدها أبلغت إدارة المستشفي أسرته أنه شفي من كورونا ومسحته باتت سلبية, لكنه أصيب بتليف جزئي في رئتيه, يحتاج لإيداعه مستشفي آخر بخلاف مستشفي العزل.
وانصاعت أسرة كمال, ونقلته لمستشفي خاص حتي لا تشعر بالتقصير, ذلك الشعور بالذنب الذي يتملكنا جميعا بسبب التقصير الذي اعتدنا عليه في المشافي الحكومية, فمن يحاول إكرام مرضاه بنقلهم للخاص حتي لا يلوم نفسه لاحقا, خصوصا إذا كان المريض فاقد الوعي, وتم النقل ليكتشف الجميع أن كمال مصاب بتليف شبه كامل في الرئتين, جلطات عميقة وكبيرة, واضطراب في كل أجهزته, جاءوا بولده وابنته, ربما تكون نظرة الوداع الأخيرة.
رأي كمال الموت مرارا, ولم يمت, أو مات ببطء مرات ومرات, لا أحد يعلم علي وجه اليقين بماذا يشعر من يغرق في أنفاسه الغائبة, بفعل كورونا, لا أحد يعلم تلك الدنيا التي يغيب فيها عندما يفارق صدره أكسجين الحياة, كمال ملقي علي فراش في أحد المشافي ربما دخل في غيبوبة أثناء مرور هذا المقال من المراجعة للطباعة, ربما مات, ربما حدثت المعجزة وعاد, ونحن مازلنا نحاول جمع مبلغ فاتورة المستشفي, لا أحد يعلم, صلوا لكل الراقدين تحت أنبوب الأكسجين, وبالقيود مكبلة أياديهم حتي لا تمتد عبثا بأنبوب الحياة, صلوا لهم وساعدوهم كي يعودوا للحياة أو يموتوا بكرامة, صلوا ليرفع الله عنا الوباء فلا أحد يعلم ماذا تحمل لنا الأيام القادمة.
==========
استغاثة لرسل السماء
نعم إنها استغاثة لكل من يمتلك قلب رسول له أفعال السماء في أرض الشقاء, لكل من يصنع خيرا وسلاما لبني البشر, استغاثة لكل من يمتلك القدرة علي تحقيق إرادة الله في صنيعته, الخير والحق والعدل, والنجاة, استغاثة لكل من يستطيع أن يتحول إلي يد عظيمة وأذن عملاقة تصغي لأنين المتألمين, وآهات المعذبين, المعلقين مثل سيدهم علي صليب الآلام, الذين جازت في أجسادهم حراب المرض, الذين خاضوا المحن معصوبي الأعين, لا ينامون لكن جفونهم باتت مغلقة عنوة, حتي لا يروا ما يجتازون فيه.
نعم هنا في باب افتح قلبك تلقينا استغاثات عديدة, من أسر مستورة, أو فلنقل كانت مستورة, إلي أن كشفها كورونا اللعين, لها قريب, ابن أو أب أو أم دخل العزل, مضت الأيام والأسابيع, والخراطيم تخترق أنوفهم وأفواههم مارة بحناجرهم, ثم صدورهم حتي يصل الأكسجين لرئاتهم, العديد منهم غموهم برباط العيون, مع طول مدة البقاء علي أجهزة التنفس الصناعي, لتخفيف حدة ما يتعرضون له, ثم خرج الفيروس من أجسادهم, وها هم خارج مشافي العزل ذووهم مجبرون بفعل الواجب علي رعايتهم في مشاف خاصة, للتعافي من الآثار المدمرة لكورونا, إلي أن تنتهي أموالهم, فيتحولون ـ إذا وجدوا مكانا ـ إلي مشاف حكومية, فما زالت مظلة التأمين الصحي لا تغطي معظم الشعب المصري, وهكذا نجد المستورين وقد كشفهم كورونا, لا يتمكنون من الإنفاق علي ذويهم, ولا يقدرون علي تركهم وهم في غيبوبة شبه كاملة داخل مشافي حكومية, لذلك لجأت لنا حالات عديدة تنتظر من يساعد حتي لا ينكشف الستر.
=======
يتيمات في عرس العيد
تحدثت بصوت تلفه نبرة الصعيد المميزة, لم تكن واثقة من أن هناك طرفا سوف يرد عليها قالت في بساطة عهدتها في بنات الريف والصعيد الصغيرات المقبلات علي الزيجة: ماكنتش فاكرة انكم هتردوا علينا, صحيح ممكن تساعديني, مخطوبة من تلات سنين, وكل ما نحدد ميعاد الجواز أمي تطلب التأجيل, أبويا ميت, أنا يتيمة من صغري, ومالناش حد, اخواتي البنات تلاتة أصغر مني, أمي عايزة تبعد ميعاد الجواز علي قد ما تقدر, إيدها خاوية, وملانة خيبة أمل, لا في فلوس لجهاز, ولا في عم ولا خال يساعد, وأنا مطلوب مني أوضة النوم, وأدوات المطبخ, والعريس كمان يادوب يقوم باللي مطلوب منه. أنا مش عايزة حاجة إلا مساعدة وإيد علي إيد أقدر اتجوز بعد العيد, ساعديني يا أبلة الله ينجيكي.
استمعت إليها وطلبت منها إرسال كافة الأوراق وتواصلت مع كاهن الكنيسة المسئولة عن الأسرة في إحدي القري الفقيرة في محافظة المنيا, الذي أكد لي احتياج الحالة ومحدودية إمكانيات الكنيسة التابعة لها, وأن أي مبلغ مهما كان بسيطا قد يسدد احتياج هذه الفتاة اليتيمة.
من المنيا للقاهرة يحملنا اليتم مرات ومرات, فلدينا عروس زفافها بعد عيد القيامة المجيد مباشرة, والداها كانا يترددان علي باب افتح قلبك منذ سنوات لمساعدتهما في إنقاذ ما يمكن إنقاذه, بعدما التهمت النيران محل تجارة الأقمشة الذي كان مورد رزق الأسرة, وكانت البضاعة كاملة مشتراة بـكمبيالات آجلة, فصار الوضع كما يسمونه موت وخراب ديار.
احترق المحل, واحترقت أثواب القماش, وبقيت الديون, وبعد التقاضي, والتسول هنا وهناك, لم يحتمل رب الأسرة تلك الضغوط, فتعرض لجراحة تركيب دعامات في القلب ثم رحل بعدها عن عالم العناء, وترك زوجته وابنته لمعاناة, الله فقط هو الأعلم بمعاناة الأرامل والأيتام, وبمساعدة رسل الخير, تمكنت الأم من استكمال رسالتها, وتممت خطبة ابنتها, وها هي قد أشرفت علي الزواج وتحتاج مثل كل فتاة إلي الستر أمام أسرة خطيبها, والوفاء بما عليها من التزامات, نثق أن الله قادر علي سداد احتياج اليتيمات في الوقت المناسب, فليكن الستر لهن عوضا عن اليتم.