هى مهنة (البحث عن المتاعب) .. البحث عن من ليس لهم من يقدم لهم العون، طرح القضايا الشائكة وتقديمها للمسئولين ، مناقشة الافكار على محيط واسع.. لم يكن مؤسسيها رغم شهرتهم على مستوى العالم ينعمون بالراحة أو الرخاء بل كانوا مرآة لمن دافعوا عنهم منهكون متعبون مظلمون احيانا ومن هؤلاء الجنود المجهولين احد مؤسسي نقابة الصحفيين واول نقيب لها الاستاذ محمود ابو الفتح .
البداية… الصحافة مهنة ورسالة
احس الخديوى اسماعيل مع النهضة الشاملة التى حققها بمصر ان البلاد تريد صحافة شعبية يمكن الاعتماد عليها أمام الرأى العام فى مصر والخارج فشجع بطريقة غير مباشرة الاستاذ عبد الله ابو السعود على إصدار جريدة (وادى النيل )والتى صدرت فى ١٨٦٧ وكان هدفها إصدار ما يدور فى مجلس شورى النواب
ثم اصدر ابراهيم بك المويلحي وعثمان بك جلال مجلة (نزهة الافكار )الاسبوعية السياسية ثم اصدر محمد بك انسي جريدة (روضة الاخبار )ومن هنا بدأت الصحافة الشعبية تظهر ف البلاد فصدرت الاهرام والتى اسسها سليم تقلا وغيرها من الصحف وكانت كل الصحف وقتها لا تعنى الا بنشر الاخبار العابرة والادب وما يباح نشره من المسائل المهمة كان يستوجب رقابة الحكومة.
الشاب الطموح… الكلمة الصادقة
كان محمود أبو الفتح في مطلع شبابه يمتلك كم هائل من المشاعر الوطنية المتدفقة، ففي مرحلة الدراسة الثانوية كتب موضوعًا باللغة الإنجليزية في مادة الإنشاء ينم عن شجاعة سياسية مبكرة ونضج فكري، وطالب ـ من خلال موضوع التعبير ـ بالدستور والاستقلال، فما كان من المشرف الإنجليزي وناظر المدرسة الإنجليزي أن قررا إعطاء هذا الموضوع صفرًا ورسوب الطالب في اللغة الإنجليزية والتي كان يجيدها إجادة تامة، عقابا له. وخلال العام الدراسي نفسه، وفي زيارة تقليدية لمستر دنلوب المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف العمومية طالب محمود أبو الفتح بمقابلته كي يشكو إليه الظلم الذي تعرض له، لكن قوبل طلبه بالرفض، فما كان من أبو الفتح إلا أن هتف ضده باللغة الإنجليزية في حوش المدرسة ليتم فصله بعدها نهائيًا من المدارس واضطر إلى أن يحصل علي شهادة البكالوريا بنظام المنازل.
وتخرج محمود أبو الفتح في كلية الحقوق جامعة فؤاد الاول ( جامعة القاهرة) وأدّى اندماجه في العمل الوطني وتأييده للوفد وزعيمه الى فصله من الكلية عدة مرات، ولم يعُد إلى الكلية إلا بعد تعهّد من والده الشيخ أحمد أبو الفتح أستاذ الشريعة الإسلامية في الكلية ذاتها بإبعاد ابنه عن العمل السياسي داخل الجامعة
وذكر الصحفى الراحل حافظ محمود أن محمود أبو الفتح بدأ حياته العملية فى العمل الصحفى محرراً صغيراً فى جريدة الأهالى التى كان يمتلكها الصحفى الكبير عبد القادر حمزة باشا وكانت تصدر من الأسكندرية فى العام 1910 م . وحين رأى عبد القادر حمزة بعينه الثاقبة وخبرته العميقة ونظرته الصائبة هذا الشاب المقبل بكل جدية على هذه المهنة الشاقة شجعه ، وجعله يتابع عن كثب مجريات الأمور فى مفاوضات وفد مصر برئاسة سعد زغلول بلندن عقب ثورة 1919م .
كانت كل الصحف تتابع هذا الحدث نقلاً عن وكالات الأنباء أو من بعض المراسلين الأجانب إلا أن محمود أبو الفتح سافر إلى لندن وقام بالتغطية الكاملة للمفاوضات مما دعا سعد زغلول إلى ضمه كمساعد فى الوفد المصرى . وحين انشئت جريدة السياسة فى العام 1922م وجد محمود أبو الفتح الفرصة سانحة أمامه لإثبات ذاته وتحقيق بعض طموحاته وسعى للعمل بها مندوباً وأعد العدة ليظهر بكامل هيئته واحترامه فارتدى الملابس الرسمية وكان وسط أصحاب الياقات المنشاة مما دفع الصحف الأجنبية أن تطلق عليه لقب أشيك صحفى فى مصر.
كان محمود أبو الفتح ثالث صحفى شارك فى أول رحلة جوية للمنطاد ” زبلن” فى زمن كان الطيران عادياً وليس بالمنطاد الذى لم يكن مآلوفاً وقتها ليس فى مصر فقط بل وفى العالم بأسره، بعدها حدثت خلافات بينه وبين الاهرام فقرر انشاء جريدته الخاصة والتى اسماها (المصرى )لتصدر بشكل يومي وبالفعل اطلقت عام 1936م.
واهتم أبو الفتح، في جريدته بالشكل الصحفي الجذاب والبُعد عن الأسلوب الأدبي في الكتابة، ولأجل ذلك تبنى أسلوبًا جديدًا في الصحافة اليومية فكانت الأخبار تأتي في المقدمة ثم الرأي والرأي الآخر بأقلام المفكرين والسياسيين الذين استكتبهم لنشر مقالاتهم بأسلوب سهل وبسيط.
ومع تتابع الأحداث على الساحة السياسية في تلك الفترة، وقيام الحرب العالمية الثانية عام 1939 والتى ساعدت محمود أبو الفتح على أن يثبت ذاته فيصبح ثالث صحفي فى العالم يُسمح له بالدخول إلى خط “ماجينو” الشهير فى فرنسا، مكّنه ذلك من القيام بتغطية الأحداث هناك، مما وضع “المصري” على قمة الهرم الصحفي وكانت تنفذ أعدادها سريعًا فور طباعتها، ودفع هذا النجاح محمود أبو الفتح إلى أن يقوم بشراء شركة الإعلانات الشرقية من أصحابها، وكانت هذه الشركة تصدر عدة صحف باللغتين الإنجليزية والفرنسية منها: الإجيبشيان جازيت، والإجيبشيان ميل.
نقابة الصحفيين
فى ٣١ مارس سنة ١٩٤١ صدر القانون رقم ١٠ الخاص بانشاء نقابة الصحفيين للعمل على صيانة حقوق الصحفيين وتحديد واجباتهم وتنظيم علاقة الصحافة مع الحكومة وبانشاء النقابة بدأ عصر جديد للصحافة المصرية واخذت الصحافة كسلطة رابعة تشارك بالرأى فى شتى الموضوعات.
إلا أن الحكومة اشترطت للموافقة على إنشاء النقابة توفير مقر مناسب للنقابة، تبرع أبو الفتح بشقته في عمارة الإيموبيليا ليجعل منها مقرًا، وأجمع الصحفيون علي انتخابه أول نقيب للصحفيين في مصر،وعين أبو الفتح نقيبا للصحفيين فى أول مجلس معين للنقابة فى 7/4/1941، وخلال الفترة من ديسمبر عام 1941 الى ديسمبر 1942 شغل أبو الفتح منصب أول نقيب للصحفيين بالانتخاب .
بداية الازمة
فى وقت غياب محمود أبو الفتح خارج مصر حدث مايشبه الإنقلاب عليه من قبل مجلس قيادة الثورة وتوقفت المصرى عن الصدور وتمت محاكمة محمود أبو الفتح وهو غائب، وتمت مصادرة كل ممتلكات محمود أبو الفتح وأسرته حتي فيلا والده في شارع أحمد حشمت بالزمالك والمجاورة لمنزل رئيس المخابرات صلاح سالم، وحولت إلى مدرسة إعدادية. وكان ذلك بسبب موقف أبو الفتح وجريدته المؤيد للديمقراطية وعودة الجيش إلى ثكناته أثناء أزمة مارس عام 1954.
وقد حوكم محمود أبو الفتح وشقيقه حسين أبو الفتح أمام محكمة الثورة برئاسة قائد الجناح عبد اللطيف البغدادي وعضوية البكباشي أنور السادات وقائد الأسراب حسن إبراهيم وكانت تهمة الأخوين أنهما أتيا أفعالًا ضد سلامة الوطن ومن شأنها إفساد أداة الحكم، وصدر الحكم بسجن محمود أبو الفتح الذي كان متغيبًا بأوروبا مدة 10 سنوات ومصادرة 358 ألف جنيه من أمواله ومعاقبة حسين أبو الفتح بالحبس مدة 15 سنة مع إيقاف التنفيذ وطبقًا لهذا الحكم عطلت جريدة المصري منذ يوم 5 مايو عام 1954، ونزعت عنه الجنسية المصرية، وبفضل علاقات أبو الفتح الطيبة مع الصحفيين العرب قرر “زهير عسيران” الكاتب الصحفي اللبناني مساعدته، فاتصل بوزير خارجية العراق في ذلك الوقت “فاضل الجمالي”، وشرح له الموقف فتأثر جدًا لما حدث له، وأنقذه مجلس الوزراء العراقي ومنحه الجنسية العراقية تقديرًا لخدماته فى سبيل العروبة.
ظل “أبو الفتح” عراقيًا يحمل جواز السفر العراقى إلى أن قامت الثورة العراقية بقيادة “عبد الكريم قاسم” وكان أول قرار لها فى أول اجتماع لمجلس الوزراء هو نزع الجنسية عن أبو الفتح.
رحيله
تدهورت صحة الصحفي الكبير محمود أبو الفتح بسبب حزنه لما وصل إليه حيث بات يعيش مشردًا بلا وطن، وتوفي فى أحد مستشفيات ألمانيا، في 15 أغسطس عام 1958، عن عمر يناهز الـ 65 عاما ولم تنعه سوى صحيفة واحدة بسطر مختصر، جاء فيه: ” انتقل إلى رحمة الله الصحفى محمود أبو الفتح”.
وكانت وصيته أن يدفن فى تراب مصر، ولكن عبد الناصر رفض استقبال جثمانه، خشية وقوع أي صدامات وقت تشييع الجنازة، بعد أن تولى الرئيس أنور السادات الحكم وفى أول عيد للصحافة، منح محمود أبو الفتح ـ بعد وفاته ـ أعلى وسام في الدولة وهو (وسام النيل)، تقديرًا لجهوده وكفاحه الوطنى على مدار سنوات طويلة.