من أجمل النصوص الكتابية التي تتعامل مع مفهوم القيمة نجدها فيرسالة العبرانيين إصحاح ١١.. فالقيمة التي ميزت حياة قائمة الآباء الأولين كان قياسها “الإيمان”، بالرغم من أن أيامهم لم تخلُ من الجهاد والتضحية وتحمل المشقات.. كم يبهرني ما ختم به الكاتبحديثه “أن الوقت يعوزه” كي يُخبر عن أبطال إيمان كثيرين غير معروفين، الذين بالرغم من أن العالم لم يحسبهم مستحقين، كان مشهودًا لهم بالإيمان بحسب المقاييس السماوية؛ فصار العالم نفسه غير مستحق لهم!
لكن مقاييس القيمة في عالم اليوم لا تتفق في أغلبها مع المقاييس الإلهية.. فما يراه العالم ذا قيمة عظيمة، أو إنجازًا يحظى بالإعجاب والتقدير، قد لا يتفق بالضرورة مع وجهة النظر الأبدية فيه. ولأن ما يُحيط بنا من مؤثرات إعلامية قد يُعطي أحيانًا للنجاح الظاهر قيمة مبالغ فيها، بغض النظر عما يصنعه هذا النجاح من فرق في حياة الناس، أصبحنا نظن أن البطولات غير المرئية لم يعد لها وجود بيننا، أو أنها بلا قيمة طالما لم يُسلط الضوء عليها!
اليوم نحتفل جميعًا بأمهاتنا، وقد اعتدتُ في هذه المناسبة أن أفكر في قصة حياة أمي، وكل أمهات الدنيا.. فأرى فيهن نموذجًا معاصرًا لبطولات غير مرئية لكنها عظيمة. ربما لم ينلن التقدير الذي تستحقه كل منهن بحسب المقاييس الأرضية، لكن وراء كل أم هناك قصص كفاح وتضحية وإصرار وإيمان في مواجهة التحديات، تجعل من القليل عليها أن نضع على رأسها تاجًا ذهبيًا! على أية حال، وإن فاتأمهاتنا التتويج الأرضي، فإكليل المجد الذي لا يبلى ينتظرهن عبر نهر هذه الحياة! ويؤكد السيد المسيح هذا المفهوم بقوله: «إذا أحسنت إلى أحد فلا تجعل شمالك تعرف ما تعمل يمينك؛ حتى يكون إحسانك في الخفية، وأبوك الذي يرى في الخفاء هو يكافئك» (متى ٦: ٣- ٤-الترجمة العربية المشتركة). النص هنا يصف محبة أمهاتنا، والكم الهائل من التضحيات التي يقدمنها بلا كلل أو تردد.. ويفعلن هذا بدون صخب أو تفاخر؛ فلا يراهم الآخرون عادة، وحتى الأبناء قد لا يدركون تأثير هذا على حياتهم إلا بعد مضي السنين! لكن ما يشجع كل أم تعيش بيننا اليوم، وكل ابن أو ابنة يشعر أن أمه لم تأخذ ما تستحقه من تقدير في أيام حياتها، الوعد بأن الله الذي يرى في الخفاء يكافئ في السماء.
لا يوجد ما يمكن أن نقيس عليه محبة الأم؛ فمحبتها من أعظم المشاعر التي يختبرها الإنسان طوال رحلة عمره.. محبة أمي لا يمكن أن تصفها كلمات! ولعل كل واحد منا لديه قصة مختلفة عن أمه، لكنالعامل المشترك بين كل القصص هو حب من نوع خاص.. حب يبقى مصدرًا للإلهام يُضيء أيامنا، حتى وإن غابت صاحبته عنا بالجسد.لقد باركني الله بأم أشعر بالسعادة في كل مرة أتحدث عنها، وذكرياتي معها لاتزال تمدني بشجاعة لأواجه تحديات اليوم، وتملأني برجاء لأختبر أمانة الله في الغد.
“أمي أكثر مَن أثَّر في حياتي، وبدونها لم أكن أبدًا ما أنا عليه الآن! قادتني لأرتبط بالإيمان بالرب يسوع، وأنضم لكنيسته. علمتني أمي كيف أتحمل المشقات بدون أن أتخلى عن الاستقامة، أو أساوم على الحق. علمتني كيف يمكن أن أستمتع بوفرة الحياة لكن بالقليل. ومعها عرفت أن الاكتفاء يعني تسديد الاحتياج، أما الرضا فهو الخطوة الأعمق؛ لأنه يعني الفرح بنعمة ما يكفي وإن لم يَفضل عنه شيء!علمتني أمي مع أخوتي قيمة وتأثير الترابط الأسري بتقديسها لعهد زواجها من أبي حتى فرقهما الموت.. وبحكمتها جسدت عمليًا المثل القائل: “المنازل تُبنى بالطوب والحجارة، أما البيوت فتبنى بالحب وحده!” وعندما تقدَّم العمر بأمي علمتني أن الشيبة والشيخوخة لا يعنيان أن نفقد الأمل في الحياة، بل لابد أن يزيدا من إصرارنا على أن نعيش للرب كل الأيام التي يستودعنا إياها، ونكون مستعدين للقائهعندما يحين موعد اللقاء. واليوم، لا أحزن لفراق أمي، لكني أنظر للوراء فأراها قد ألهمتني بأسلوب معيشتها الخلاق كيف أكون مثمرًا حيثما أوجد. إن أثمن ميراث تركته لنا هو نموذج حياتها الذي تميَّز بمزيج فريد من الشكر والبساطة، وبفيض من الحب غير المشروط والتواضع. لم تتقلد أمي مركزًا وظيفيًا لامعًا أثر في الحياة العامة،كما لم تحصل على أية جائزة دولية أو حتى محلية تقديرًا لسنوات خدمتها المخلصة التي طالت حتى السادسة والثمانين من العمر، أو لم يُطلق اسمها على أحد الشوارع أو الميادين؛ فهي بحسب المقاييس الأرضية واحدة من ملايين الأمهات اللاتي عبرن في هذه الحياة.. لكنها عاشت حياة عظيمة بحسب المقاييس السماوية!”
هذا جزء مما كتبته في مذكراتي عن أمي بعد رحيلها، وقد أردت أنأشارك به بمناسبة عيد الأم.. فهل لديك ذكريات تحكيها اليوم لأبنائكأو لأصدقائك عن أمك؟ أم أنك من المحظوظين الذين لازالت الفرصة متاحة لهم بأن يذهبوا إلى “أُم” تنتظر أن تذهب إليها وتقول: “لو قُدر لي أن أختار أمًا.. سأختارك أنتِ لتكوني أمي!”