قام البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، بإلقاء عظة روحة خلال ترأسه للقداس الإلهي بملعب “فرانسو حريري” في أربيل.
وبدأ قداسته العظة بكلمات الكتاب المقدس قائلًا: “فهُوَ مَسيحٌ، قُدرَةُ اللّهِ وَحِكْمَةُ اللّه” وقد بيَّنَ لَنا يسوعُ المسيح هذهِ القُدْرَةَ وَهَذِهِ الحِكْمَةَ، خاصّةً بالرَحْمَةِ والمَغْفِرَة، لم يُرِدْ أنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بإظهارِ القُوّةِ أو فَرْضِ صَوْتِهِ مِن أَعْلَى، وَلا بِخِطاباتٍ طَويلَة، أوْ عُرُوضٍ عِلْمِيَّةٍ فَريدَة. إنَّما أَظْهَرَ قُدْرَتَهُ بِتَقْدِيمِ حَياتِهِ علَى الصَّليب. أَظْهَرَ حِكْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ الإلَهِيَّة، مُبَيِّنًا لنا، حتَى النِهايَة، أَمانَةَ مَحَبَّةِ الآبِ لَنا، أَمانَةَ إلَهِ العَهْد، الذي أَخْرَجَ شَعْبَهُ مِنَ العُبُودِيَّةِ وَقادَهُ في طَريقِ الحُرّيَّة.
وأضاف ما أَسْهَلَ الوُقُوعَ في أَنَّهُ يَجِبُ عَلَينا أنْ نُبَيِّنَ لِلآخَرينَ أَنَّنا أَقْوِياء، وَحُكَماء، ما أَسْهَلَ الوُقُوعَ في تَصَوُراتٍ خاطِئَةٍ عَنِ الله، لِنجِدَ فيها الأمان.
في الواقِع، العَكْسُ هُوَ الصَّحيح، إنَّنا نَحْتاجُ كُلُّنا إلى قُدْرَةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ التي أَعْلَنَها يَسُوعُ على الصَّليب. على الجُلْجُلَة، قدَّمَ يَسُوعُ للآبِ جِراحَهُ التي بِها شُفينا . هُنا في العِراق، كَثيرونَ هُم إخوانُكُم وأخَواتُكُم وأَصْدِقاؤُكُم وَمُواطِنُوكُم الذين يَحْمِلُونَ جِراحَ الحَرْبِ والعُنْف، جِراحًا مَرْئِيَّةً وغَيْرَ مَرْئِيَّة! التَجْرِبَةُ هي الرَدُّ عَلَيْها، وَعَلَى غَيْرِها مِنَ الوَقائِعِ الأَليمَة، بالقُوَّةِ البَشَريَّة وَبِحَسَبِ الحِكْمَةِ البَشَريَّة. أمَّا يَسُوعُ فَقَدْ بَيَّنَ لَنا طَريقَ الله، الذي سارَ هُوَ فيه، وَيَدْعُونا لاتِّباعِهِ فيه.
في الإنْجيلِ الذي أصْغَيْنا إلَيْهِ الآن
وتابع نَرَى كَيْفَ طَرَدَ يَسُوعُ مِن هَيْكَلِ أُورَشَليم الصَّيارِفَةَ وَكُلَّ الذينَ كانوا يَشْتَرونَ وَيَبِيعُون. لِماذا أقْدَمَ يَسُوعُ علَى هذا المَوْقِفِ بِما فيهِ من قُوَّةٍ واسْتِفزاز؟ فَعَلَ ذَلِكَ لأنَّ الآبَ أَرْسَلَهُ ليُطَهِّرَ الهَيْكَل: لا هَيْكَلَ الحَجَرِ فَقَط، بَلْ علَى وَجْهِ الخُصُوصِ هَيْكَلَ قُلُوبِنا. كَما لمْ يَسْمَحْ يَسُوعُ أنْ يَصيرَ بَيْتُ أبِيهِ مَكانَ تِجارة، هَكَذا لا يُريدُ أنْ يُصْبِحَ قَلْبُنا مَساحَةَ اضْطرابٍ وَفَوْضَى وارتِباك.
وشدد: يَجِبُ أنْ يكونَ القلبُ نقِيًا وَمُنَظَمًا وطاهِرًا. مِن ماذا؟ مِنَ الأكاذيبِ التي تُلَوِثُه، وَمِنَ الازْدِواجِيَّةِ المُنافِقَة التي لَدَيْنا جَميعًا شيءٌ مِنْها. إنَّها أمْراضٌ تُؤْذي القَلْبَ وَتُلَطِخُ الحياةَ وَتَجْعَلُها مُزْدَوَجَة.
وأشار إلى أننا بِحاجَةٍ لأنّ نَتَطَهَرَ مِنَ الأمانِ الزائِف، الذي يَسْتَبْدِلُ الإيمانَ بالله بالأُمُورِ الزائِلَة، وبالمَصالِحِ الآنِيَّة. نَحْنُ كَذَلِك بِحاجةٍ لأنْ نُزيلَ مِن قُلُوبِنا ومِنَ الكَنيسةِ الطُمُوحاتِ لِلْسُلْطَةِ والمالِ المُؤْذِيَة. لتَطْهُرَ قُلُوبُنا، نَحْتاجُ أنْ تَتَسِخَ أيْدِينا: أنْ نَشْعُرَ بالمَسْؤُوليّةِ ولا نَقِفُ مَكْتُوفي الأيْدِي بَيْنَما يُعاني إخْوَتُنا وَأَخَواتُنا. وَلَكِنْ كَيْفَ نُنَقي قَلْبَنا؟ لسْنا قادِرينَ علَى ذَلِكَ وَحْدَنا: نَحْنُ بِحاجَةٍ إلى يَسوع. لَدَيْهِ القُدْرَةُ علَى أنْ يَنْتَصِرَ علَى شُرُورِنا، وأنْ يَشْفِيَ أمْراضَنا، وأنْ يُرَمِّمَ هِيْكَلَ قَلْبِنا.
تأكيدًا علَى ذَلِك، وَدَليلًا علَى سُلْطانِهِ، قال: “اُنقُضُوا هذا الهَيْكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام!” . يَسُوعُ المَسيح، وَحْدَهُ، يَقْدِرُ أنْ يُطَهِّرَنا مِن أَعْمالِ الشَّرّ، هوَ الذي ماتَ وَقام، وَهوَ الرَّبّ!
وقال : إخْوَتي وَأَخَواتي الأَعِزّاء، إنَّ اللهَ لا يَتْرُكُنا نَمُوتُ في خَطيئَتِنا. حتَى إذا تَرَكْناه نَحنُ، هُوَ لا يَتْرُكُنا أبدًا لأَنفُسِنا. إنَّهُ يَبْحَثُ عَنّا، وَيُتابِعُنا، حتَى يَدْعُوَنا إلى التَوْبَةِ وَيُطَهِّرَنا. “حَيٌّ أَنا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبّ علَى فَمِ حِزقيالِ النبي، لَيْسَ هَوايَ أَنْ يَمُوتَ الشِّرِّير، بَلْ أَنْ يَرْجِعَ عَن طَريقِهِ فيَحْيا”. يُريدُنا الله أنْ نَخْلُصَ وأنْ نُصْبِحَ هَيْكَلًا حَيًّا لِمَحَبَّتِه، في الأُخُوَّةِ وَفي الخِدْمَةِ والرَحْمَة.
لا يُطَهِّرُنا يَسُوعُ مِن خَطايانا فَحَسْب، بَلْ يَجْعَلُنا شُرَكاءَ في قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِه. إنَّهُ يُحَرِّرُنا حتَى نَتَمَكَّنَ مِن أنْ نَبْنِيَ كَنِيسَةً وَمُجْتَمَعًا مُنْفَتِحَيْن لِلْجَميع، وفيهِما نَهْتَمُّ بإخوَتِنا وَأخَواتِنا وَبِأَكْثَرِهِم حاجَةً. وَفي الوَقْتِ نَفْسِهِ يُقَوِّينا، حتَى نَعْرِفَ أنْ نُقاوِمَ تَجْرِبَةَ البَحْثِ عَنِ الانْتِقام، الذي يُغْرِقُنا في دَوَّامَةٍ مِن عُنْفٍ مُتَبَادَلٍ لا يَنْتَهي.
وَيُرْسِلُنا بِقُدْرَةِ الرّوحِ القُدُس، لَيْسَ لِلْبَحْثِ عَن أَتباعٍ لَنا، بَلْ يُرْسِلُنا تَلاميذَ لَهُ، حامِلِي الرِسالَة، رِجالًا وَنِساءً، مَدْعُوِّينَ إلى أنْ نَشْهَدَ أنَّ في الإنجيلِ قُدْرَةً لِتَبْديلِ الحياة.
– الرَّبُّ القائِمُ مِن بَيْنِ الأموات يَجْعَلُنا أَدَواتٍ لِسَلامِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَصانعِينَ صابرِين وأقوياءَ لنِظامٍ اجتِماعيٍّ جَديد.
وَهَكَذا، يَتِمُّ، بِقُوَّةِ المَسيحِ وَرُوحِه، مَا تَنَبَّأَ بِهِ بولسُ الرَسول لأهْلِ قورِنتُس: “الحَماقَةُ مِنَ اللّه أَكثَرُ حِكْمَةً مِنَ النَّاس، والضُّعْفُ مِنَ اللّه أَوْفَرُ قُوَّةً مِنَ النَّاس” وَهَكَذا تُصْبِحُ الجَماعاتُ المَسيحيَّةُ المُكَوَّنَةُ مِن أُناسٍ مُتواضِعِينَ بُسطاءَ عَلامةً للمَلَكوتِ الآتي، مَلَكوتِ المَحَبَّةِ والعَدْلِ والسَّلام.
“اُنقُضُوا هذا الهَيكَل أُقِمْهُ في ثَلاثَةِ أَيَّام!” (يو 2، 19).
كانَ يَسُوع يَتَكَلَّمُ عَن هَيْكَلِ جَسَدِهِ، وبالتالي عَن كَنيسَتِهِ أيْضًا. وَقَدْ وَعَدَنا الرَّبُّ يسوع أنَّهُ يَسْتَطيعُ، بِقُوَّةِ قِيامَتِه، أنْ يُقيمَنا نَحْنُ أيْضًا وَجَماعاتِنا مِن بَيْنِ الأنقاضِ التي أَحْدَثَها الظُلْمُ والانْقِسامُ والكَراهِيَة. بِهذا الوَعْدِ نَحْتَفِلُ في هذِهِ الإفخارستيا.
إنَّنا نَرَى بِعُيُونِ الإيمان، الرَّبَّ يسوع المَصلوبَ والقائِمَ مِن بَيْنِ الأموات حاضِرًا في وَسَطِنا، وَنَتَعَلَّمُ أنْ نَسْتَقْبِلَ حِكْمَتَهُ المُحَرِّرَة، وأنْ نَجِدَ راحَتَنا في جِراحِه، والشِفاءَ والقُوَّةَ لخِدْمَةِ مَلَكوتِهِ الآتي إلى عالَمِنا. بِجِراحِهِ شُفِينا . في جِراحِهِ، إخوَتي وأخَواتي الأعِزاء، نَجِدُ بَلْسَمَ حُبِّهِ الرَحيم، لأنَّهُ هُوَ السامرِيُّ الرَحيم لِلْبَشَريَّة، يُريدُ أنْ يُبرِئَ كُلَّ جُرْحٍ، وأنْ يَشْفِيَ كُلَّ ذِكْرَى أَليمَة، وأنْ يُلْهِمَ مُسْتَقْبَلَ سَلامٍ وأُخُوَّةٍ في هذهِ الأرْض.
عَمِلَتْ الكَنيسَةُ في العِراق، والحَمْدُ لله، وَلا تَزالُ تَعْمَلُ الكَثيرَ لإعلانِ هذهِ الحِكْمَة، حِكْمَةِ الصَّليبِ العَجيبَة، وَنَشَرَتْ رَحْمَةَ المَسيحِ وَمَغْفِرَتَهُ، ولا سيما بَيْنَ أكثَرِ الناسِ احتِياجًا. حتَى في وَسَطِ الفَقْرِ الشَديدِ والصِّعاب، قَدَّمَ الكَثيرُونَ مِنْكُم بِسَخاءٍ كَبير، مُسَاعَدَةً مَلْمُوسَةً وَتَضامُنًا مَعَ الفُقَراءِ والمُتَألِمين. وَهَذا هُوَ أَحَدُ الأسْبابِ التي دَفَعَتْني إلى المَجيءِ حاجًّا إليْكُم، لأَشْكُرَكُم وَلأُثَبِّتَكُم في الإيمانِ والشَهادَة.
اليوم، أَسْتَطيعُ أنْ أَرَى وأَلمِسَ لَمْسَ اليَد أنَّ الكنيسَةَ في العِراقِ حَيَّة، وأنَّ المسيحَ حَيٌّ فيها يَعْمَلُ في شَعْبِهِ المُقَدَّسِ والمُؤْمِن.
وأختتم قداسته العظة قائلاً: أيُّها الإخْوَةُ والأخَواتُ الأعِزّاء، إنِّي أَضَعُكُم، وَعائِلاتِكُم وَجَماعاتِكُم، في حِمايَةِ سَيِّدَتِنا مَرْيَمَ العَذْراءِ الوالِدِيَّة، التي رافَقَتْ آلامَ ابْنِها وَمَوْتَهُ، وَشارَكَتْ في فَرَحِ قِيامَتِه. فَلْتَشْفَعْ لنا وَلْتَقُدْنا إلَيْه، هُوَ قُدْرَةُ اللهِ وَحِكْمَتُه.