ثمة تطور ملحوظ ومتواتر فى تحليل العنف ضد النساء باستخدام مجموعة من المفاهيم ذات الصلة كالسلطة، علاقات القوى، الهيمنة. وهى مفاهيم معنية بالأساس بتحليل البنية الاجتماعية أكثر من كونها مفاهيم لتحليل العنف بمعناه الضيق. وكما تم استخدام هذه المفاهيم لتحليل العلاقات الطبقية، فقد تم تطوير رؤى باسخدام هذه المفاهيم لتحليل العلاقات الجندرية (النوع الاجتماعى)، بوصفها علاقات سلطة، تعززها إدراكات وتصورات ثقافية.
إن الهيمنة والسيطرة الذكورية هى نسق علاقات وأدوار يقوم بها كل من الرجال والنساء. وفى هذا النسق يخضع الطرفان لإملاءات وتصورات اجتماعية وثقافية، وفى وضعيات معينة، يلعب كل من الرجال والنساء أدوارا تعزز النسق وتقويه وتعيد انتاجه، وكما يشير علماء الأنثربولوجى، فإن هذه الأدوار المحددة اجتماعيا يجرى إعادة انتاجها من قبل الطرفين. وفى وصف معبر عن دينامكية لعب الأدوار الجندرية نقرأ الآتى فى كتاب كافين رايلى “الغرب والعالم”: “يلعب هو دور الذكر، وتلعب هى دور الأنثى، وهو يلعب دور الذكر لأنها تلعب دور الأنثى. وهى تلعب دور الأنثى لأنه يلعب دور الذكر. وهو يقوم بدور ذلك النوع من الرجل الذى تعتقد هى أن نوع المرأة، الذى تقوم بلعب دوره، لا بد أن تعجب به. وهى تقوم بدورذلك النوع من المرأة، الذى يعتقد هو أن الرجل الذى يقوم بلعب دوره، لا بد أن يرغب فيه، ولو لم يكن يلعب دور الذكر، لكان على الأرجح أشد منها أنوثة- اللهم إلا فى الحالات التى فيها مسرفة فى لعبة الأنوثة. ولو لم تكن تلعب دور الأنثى لكانت على الأرجح أشد منه ذكورة- إلا فى الحالات التى يكون فيها مسرفا فى لعبة الذكورة. وهكذا يزداد لعبه شدة، ويزداد لعبها نعومة…“
وتلعب الثقافة دورا مهما فى تبرير العنف، بل وإخفائه، فالثقافة هى تحديدا الساحة التى يدور فيها الصراع والهيمنة وعمليات بناء شرعية السلطة الذكورية، بل إن الثقافة هى الساحة التى تشرعن العنف ضد النساء ذاته. ومن المعروف أن ما يسمى بالعادات والتقاليد هى الأكثر بروزا فى علاقتها بأنماط معينة من العنف ضد النساء مثل الختان أو تشويه الأعضاء التناسلية للإناث، وجرائم الشرف وزواج القاصرات، والقوانين التمييزية. إن معظم الأدبيات التى تعالج التمييز أو العنف ضد النساء تستدعى ما يسمى بأعراف وتقاليد ما قبل الحداثة بوصفها “مصادر” رئيسية لأنماط مختلفة من العنف ضد النساء. ولكن هذا لا يعنى أن علاقة الثقافة بالعنف ضد النساء مقصورة فقط على العادات والتقاليد التى ينظر إليها على أنها بقايا ماض آليم، فالثقافات الحديثة كذلك تنطوى على عناصر تنتقص من قدر المرأة وإن بطرق أخرى مختلفة كأن يتم التعامل مع جسد المراة كشئ فى سوق السلع الرمزية.
ولعل مفهوم العنف الرمزى الذى طوره بيير بورديو يعد من أهم المفاهيم الكاشفة عن علاقة الاجتماعى والثقافى بالعنف ضد النساء. والمفهوم يشاع استخدامه بدرجة عالية من التبسيط وكأنه النقيض للعنف الجسدى المباشر، أو كأنه مجرد نوع من العنف يخلف آثار نفسية. وفى الحقيقة أن المفهوم كما صاغه بورديو يتعلق بالأطر والبنى الاجتماعية التى تنظم علاقات السيطرة والتى يكون العنف البدنى أو النفسى نتيجة لها. إنه بمعنى آخر تطبيع السيطرة أى جعلها طبيعية. ومن خلال استخدام السلطة الرمزية “تظهر قوة النظام الذكورى فى حقيقة أنه يستغنى عن التبرير. فالرؤية المتمحورة حول الذكورة تفرض نفسها باعتبارها محايدة ولا تحتاج إلى التعبير عنها فى خطابات تسعى إلى منحها المشروعية. النظام الاجتماعى يعمل بمثابة آلة رمزية هائلة تميل إلى إقرار السيطرة الذكورية التى يقوم على أساسها: إنه التفسيم الجنسى للعمل، التوزيع البالغ الصرامة للنشاطات الموكلة لكل جنس من الجنسين، ولمكان هذه النشاطات، ولحظتها، وأدواتها”.
إن ما يستحق التغيير هى طرق التفكير فى العنف والتى هى نتاج أنظمة السيطرة ذاتها، ولذلك لا نندهش كثيرا عندما نجد أن النساء أنفسهن حتى من يرفضن العنف، يتمسكن بذات الأطر والأفكار المولدة للعنف. وقد نعتقد أنالرجال فى ظل السيطرة الذكورية فئة منتصرة، ولكن هذا غير صحيح وخاصة فى ظل تحولات اجتماعية تفرض تغيير الأدوار الاجتماعية. وهذه أيضا من المغالطات، فأنماط الذكورة التقليدية فى “مأزق” حقيقى منذ عقود طويلة، ولعل العديد من أشكال العنف الراهنة، هى تعبير عن “مأزق”، وليس “انتصارا” أو حتى “قدرة”. ففى ظل هذه التحولات لا يتوقف العنف بل قد يزداد فى بعض أشكاله مع تزايد محاولات استعادة السلطة وتثبيت الأدوار. فالتحرش الجنسى قد لا يكون دافعه جنسى بالمعنى البيولوجى، بقدر ما يكون محاولة لإثبات الذكورة بالمعنى الاجتماعى وفق الإدراكات المسيطرة.
ومن هنا فإن مناهضة العنف ضد النساء يتطلب ليس فقط التركيز على العنف بمعناه المباشر، ولكن حل مشكلة الإدراكات والتصورات بما فى ذلك معنى الذكورة والأنوثة، ولحسن الحظ أن هناك جهود تسعى لشق طريقها فى هذا الاتجاه، بالتركيز على تغيير المدركات والتصورات لدى الرجال والنساء معا.