السر يعبر الكتمان, يحاول الفرار هاربا خارج ضلوع الصدر, أو يطل برأسه تباغته عيون الناس رقيبا, وآذانهم تأريخا لجموحه أو سقوطه, ألسنتهم أسنة سيوف مسلطة فوق عنق الحقيقة, فيفر إلي الخلف عائدا إلي الضلوع يتستر بين صلابتها, يراوده الحنين ولا خيار, فالأسرار لا تقبل القسمة علي اثنين, إلا إذا كان الطرف الثاني لديه حلول ومحافظة وثيقة الإغلاق علي ودائعنا الثمينة التي فيها مصير سيرتنا وسمعتنا, في نفس كل منا ذلك الحنين لانطلاق السر المكتوم, حتي هي التي أودعت سرها وأخفته عن أقرب الناس إليها خشية الوحدة, عبارات مكررة كانت مقدمة قصة حزينة طلت عليكم فوق هذه المساحة من قبل.
تنهيدة طويلة.. آهات متقطعة.. عيون جفت من البكاء, هذا هو حالها, تشكو في مرارة: حاولت أعيش طبيعية ماقدرتش, حاولت أواجه عيلتي ماقدرتش, وكمان مش قادرة استمر في إخفاء الواقع الأليم, عملت صفحة علي الفيس بوك باسم وهمي حاولت من خلالها أكتشف رأي الناس في أمثالي, ولو واجهت الناس هايقابلوني ولا لا لكن للأسف ردود الأفعال صدمتني, ظلم الناس هد كياني ومررني.
سألتها: عن أي شيء كانت صفحة الفيس بوك وما الذي تريدين أن تواجهي الناس به؟
أجابت: أنا مريضة إيدز,
ـ عن أي شيء تبحثين؟
** لا أبحث عن شيء إلا الحياة الطبيعية أريد أن أحيا بلا كذب بلا افتعال, وفي نفس الوقت بلا ملاحقة, بلا تجريح, بلا شكوك أو نظرات دونية. أريد أن أصبح أما, حينما أصبت بالمرض كنت في الثلاثين من عمري, والآن أنا في الأربعين, بدون زوج, بدون أبناء, بدون مستقبل غير المشروعة, انتقل لي المرض من زوجي صاحب التاريخ الملوث بالعلاقات غير المشروعة لكنني أحبته فغفرت له, الحب يصنع المعجزات, قبلت الزواج منه بعد أن وعدني بحياة مختلفة, حقا كانت مختلفة, لم يكن يعلم أنه مصاب, إلا حينما احتاج لإجراء جراحة قلب مفتوح, سعي خلف أهوائه فسعت خلفه الآلام.
كان صادقا معي واجهني بالحقيقة, آملا ألا يكون المرض قد انتقل لي عبر العلاقة الزوجية, لكن عبثا, فبعد إثبات التحاليل إصابتي, هزمه الإحساس بالذنب, حل به الاكتئاب, انعزل عن الجميع حتي عني, رفض العلاج, صارحني قائلا: كنت أود أن أتطهر بحياتي معك لم أكن أعلم أنني أنهي حياتك معي, كنت أود أن أقدم لك حياة مختلفة, فقدمت موتا محققا, الذنب ينهشني, أجرمت في حقك ياحبيبتي جرما لا يغتفر, مقابله عمك, لا أتذكر كل ما قاله إذ ظل يقول ويقول لأيام طويلة حتي عزله الاكتئاب وفضل الصمت, ظل ينزوي ويخبو إلي أن مات من فرط الحسرة.
استسلمت للحياة الجديدة وذهبت إلي مراكز متخصصة, تعايشت لكن بلا مواجهة, أشعر أن هناك حملا ثقيلا جاثما علي قلبي, متربعا فوق صدري لا يتزحزح, أشكو همي, أتمرد, أبكي, أصرخ أنا مظلومة, لم تمسسني الخطية ولا مسستها, عشت زوجة مخلصة, وحينما تستردني الإفاقة أعود إلي رشدي عالمة أن الإفصاح لن ينتج إلا ثمارا عفنة تطيح بالمتبقي لي من أمل في هذه الحياة, ألسنة الناس لن ترحم ضعفي, لم تكن رغبتي في المواجهة فقط ما يؤلمني, لكني احتياجي للحياة الطبيعية كان أكثر إيلاما.
كم بكيت ليالي طويلة لحرماني من عاطفة الأمومة, لكن كيف أنجب وأنا حاملة الموت في احشائي, فالفيروس قد ينتقل من الأم إلي جنينها خلال مرحلة الحمل أو الولادة أو الرضاعة أو من خلال أي عملية تعرض أخري لأي من السوائل الجسدية. فمن الممكن أن أتزوج آخر متعايشا مع الفيروس لكن لن يمكننا الإنجاب لأنه إن حدث فسوف نجلب إلي الدنيا إنسانا محكوما عليه بالعذاب, بسبب الوصم قبل المرض. لذلك فكرت في رعاية طفل من أطفال دور الأيتام وجئت هنا أبتغي المشورة.
عندما صمتت السيدة تنتظر ردي, لم أجد كلمات مناسبة للمواساة ولم يكن من الممكن خداعها أيضا, وتقديم الحلول العملية هو الأكثر واقعية بالنسبة لحالتها وحالات عديدة تتشابه مع حالتها, فاقترحت عليها ممارسة الخدمة وسط الأيتام, فالاحتياجات العميقة التي تعتمد علي وجود آخرين في حياتنا, تكمن في أغوار النفس ولا نعلنها ولا تفارقنا, تخلق دورة من الإلحاح, تسكننا إلي الممات, لكن لا ينبغي أن يدفع ثمن سدادها بريء لا ذنب له.
فهذه المرأة التي حرمت نعمة الإنجاب طوعا حتي لا تظلم طفلا قادما إلي عالم المجهول, حفظت وديعة الله فيها حتي بعد أن علمت أنها مصابة بالإيدز, ضمتت ما تبقي منها, لملمت الماضي المبعثر والمستقبل الممزق, رفضت أن تودع الدنيا وديعة معذبة, لكنها الآن تحتاج الونس, الحماية, الصدق, الإفصاح, فلا يجب أن تكون تضحيتها منقوصة, إنها في حالة نفسية تحتاج لرعاية خاصة جدا فكيف لها أن ترعي طفلا؟ وكيف ستواجه المجتمع الذي تخشاه به؟ وكيف ستواجه عائلتها التي تخفي عنها كافة التفاصيل؟ صامتة دامعة رحلت لا حيلة لها.
مر علي هذا اللقاء سنوات طويلة لم ألتق فيها بصاحبة القصة مرة أخري, ظللت أياما طويلة ألوم نفسي علي تلك المشورة القاسية, إلي أن جاءتني منذ أيام امرأة في الثلاثينيات من عمرها تطلب مساعدة مادية, ولا تجيد أي عمل, لأنها كانت ابنة الشارع, ولأنها ابنة الشارع أنجبت من الشارع وأودعت ابنها بعد أن صار عمره 12 عاما دارا للأيتام, سلمته بيديها, لا أعرف ماذا كان شعورها, كل ما أعرفه أنه في نفس اليوم جاءني رجل في الخمسينيات من عمره أودع أطفاله الثلاثة منذ سنوات في دور أيتام مختلفة أي أنه حرم نفسه منهم وحرمهم من بعضهم البعض, بسبب ضيق ذات اليد.
تذكرت صاحبة الإيدز, وكم كانت معذبة, وأولئك الأيتام الذين بلا أب ولا أم ولا رعاية حقيقية متفردة, فرعياة دور الأيتام مهما بلغت إجادتها لن تكون مثل الرعاية المنزلية, راجعت نفسي ووجدتني, أكتب عنها مرة أخري فالحياة تعلمنا أن مواقفنا النظرية تتغير بتغير خبراتنا العملية, فيا ليتك ياسيدتي تقرأين هذه السطور الآن لتسامحيني علي مشورة لم أكن مجهزة لها آنذاك.
السرطان لا يأتي منفردا
السرطان, هذا المرض اللعين, غالبا لا يأتي منفردا, بل يصطحب معه عددا لا يحصي من الأزمات النفسية والمادية, وليست الصحية فقط, فمن ذا الذي يمكنه الإنفاق علي الغول الذي يفترس أموال المرضي وممتلكاتهم, أملا في مزيد من أيام الحياة؟ من ذا الذي يمكنه الصمود أمام العلاج الذي يرهق القادرين فما بالنا بغير القادرين, الصامدين الصامتين, لأنهم مازالوا أمام الناس مستورين.
هذا حال عم فهيم, إنه رجل مظهره جيد إلي حد كبير, أخرج من حافظة أوراقه التي يحملها بعض المستندات التي تفيد بمرض زوجته بالسرطان, ياله من مرض لعين يضرب ولا تخيب الضربة., مسئول عن والدته بشكل دائم, الرجل في منتصف الخمسينيات من عمره, لديه ولدان, يمتلك محلا كبيرا في منطقة رائجة لبيع أدوات النجارة, لكن الحال لم يعد مثلما كان, تراكم عليه أيجار 30 شهرا. بواقع 180 جنيه شهريا, لم تعد في المحل بضاعة للبيع, المنزل يخلو من الثمين الذي يمكن أن يباع لسداد الإيجار.
سألته: لماذا تركت الديون تتراكم هكذا؟؟ وما السبب في خلو المحل من البضاعة أجاب: أنا رب الأسرة والولدان صغيران, في المرحلتين الإعدادية والثانوية, كيف أترك زوجتي تذهب لعمل جلسات الكيماوي منفردة, فاليوم الذي أذهب معها الجلسة أغلق المحل تماما هذا بخلاف ما تتكلفه لإجراء الجلسة والمصروفات العلاجية وغيرها, تراكمت الديون وانهارت قدراتنا المادية تحت ضغط ظروفنا حتي خلا المحل من البضاعة تماما, وانكسر الإيجار لمدة 30 شهرا.
رفع صاحب العقار دعوي وأرسل لي إنذارا علي يد محضر, فالدفع أو الطرد, المحل هو مصدر رزقنا الوحيد الذي نعيش منه, حتي الإيجار لم أستطع سداده من المحل, وعلاج زوجتي تتحمله الكنيسة, التي أثقلت عليها جدا لذلك جئت إليكم ربما أجد حلا في سداد الإيجار قبل طردي.
كان هذا لسان حال عم فهيم, وحينها سددنا عنه الإيجار بالكامل وذهب بالباحث الاجتماعي لصاحب العقار, والتزم معه بالسداد, وشاركت الكنيسة في المبلغ الذي وصل حينها إلي خمسة آلاف وأربعمائة جنيه.
ومرت أزمة عم فهيم, ولم نلتق به مجددا إلا بعد سنوات ليعود بنفس الأزمة ونفس الحال, فالسنوات تمر والأزمات تتصلب مثل تصلب الشرايين, تسد أوردة الحياة وتمنع جريان الدم فيها, تحرم الجسد من الهواء النقي, والحلم البسيط, والراحة النسبية.
جاء عم فهيم هذه المرة في حال أسوأ, لأن العمر يمضي والجسد يذبل, والقدرة علي مواجهة المصاعب والمحن تضعف, مازال يواجه السرطان مع زوجته, يضنيه الطواف للانتقال من علاج لعلاج كلما انتقل اللعين من منطقة لمنطقة في جسدها, ربما كبر, أبناه لكنهما في حياتهما لا يمكن الواحد منهما مساعدة نفسه حتي يساعد أباه وأمه خاصة إذا كانت أزمة الإيجار تعيد نفسها مرة أخري ولمدة جديدة تبلغ 20 شهرا أي بواقع 180 جنيها لمدة 20 شهرا ليصل المبلغ إلي 3600 جنيه.
وللحظ الجيد أن عقد المحل يخضع لقانون الإيجارات القديمة فلا تزيد القيمة الإيجارية, تتلخص مخاوف عم فهيم في أن صاحب العقار أقام عليه دعوي, إذا خسر الدعوي, سوف يصبح في الشارع هو وأبناؤه وزوجته, لأنه يحيا من المحل ويدفع إيجار سكنه من ربح المحل, ونفقات الانتقال لعلاج زوجته أيضا ولا يمكنه توفير مصاريف الدراسة.
ونحن علي مشارف بداية الترم الثاني في الجامعات, لدينا فتيات في مختلف السنوات الدراسية التحقن بكليات القمة, أو كليات نظرية, لكن لا يستطعن سداد المصروفات الدراسية واعتدن علي المساعدة الكاملة من باب افتح قلبك كل عام دراسي عبر الترمين الأول والثاني, ربما لا تحتاج أسرهن للمساعدة في متطلبات الحياة من مأكل وإيجار وملابس, لكن الخبرة أثبتت أن رعاية المستورين, الذين زجت بهم الحياة, وتردي الأوضاع الاقتصادية إلي طلب العون ممن يثقون في احترامهم لصمت المستورين لا تقل أهمية عن رعاية الذين كشف الحوج سترهم وأطاح بالحياء في وجوههم فقرروا طلب العون بلا خجل سائلين كل من يقعون في طريقه.