من بين أكثر الظواهر الاجتماعية السلبية التي عرفها الشارع المصري خلال السنوات القليلة الماضية تأتي ظاهرة التحرش الجنسي, التي باتت تطل علينا من أكثر من مكان, وفي أكثر من مناسبة, في الشارع ومواقع العمل!! في الأيام العادية, وفي بعض الأعياد والمناسبات الدينية أيضا!! لتهدد أمن وسلامة كل فتاة وسيدة وأسرة مصرية.
وإذا كانت ظاهرة التحرش موجودة في مجتمعنا, وفي غيره من مجتمعات, منذ فترة بعيدة, وإن كانت بصورة أقل وطأة وأخف حدة, فإنها تطورت مؤخرا حيث أخذت طابعا عنيفا من جانب المتحرشين, فضلا عما سمي بظاهرة التحرش الجماعي, كما يصر البعض علي أن يجعل من المرأة مجالا للنقد ومادة للسخرية والاستهزاء, والتحرش أيضا!!
هو الأمر الذي دفع المجتمع المصري إلي مزيد من اليقظة والنهوض, إذ لم يكن غريبا أن تهتم الكثير من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية بالعمل علي مواجهة تلك الظاهرة / المشكلة, ومحاولة اقتلاعها من جذورها, عبر تنظيم الندوات وورش العمل والمؤتمرات التي تستهدف التثقيف ورفع الوعي بخطورة تلك الظاهرة, وتدريب الفتيات علي الدفاع عن أنفسهن, إضافة إلي تغليظ العقوبات علي من يمارس هذا الفعل الإجرامي.
أشير هنا إلي موقفين يعكسان الحاجة إلي أهمية الوعي المجتمعي بتلك الظاهرة.
الموقف الأول: في تسعينيات القرن العشرين نشرت إحدي الصحف الجامعية كاريكاتيرا لأحد الرسامين المعروفين, وفيه طالب جامعي يحاول القفز من أعلي السور لينطلق خارج الجامعة, سأله زميله: عايز تهرب ليه؟ أجابه: رايح أعاكس بنات. فقال الزميل: طب ما تعاكس جوه!! وبالطبع فإن كثيرين لم يعجبهم هذا الكاريكاتير, ووصل الأمر إلي رئاسة الجامعة وقياداتها التي قررت الاعتذار وعدم توزيع هذا العدد.
الموقف الثاني: منذ عدة سنوات ظهرت العديد من المبادرات الشعبية التطوعية لمواجهة ظاهرة التحرش, وهي مبادرات تستحق من المجتمع كل التحية والتقدير, وحدث أن كنت في إحدي القنوات التليفزيونية لمناقشة تلك الظاهرة بالاشتراك مع شاب وفتاة من أعضاء إحدي حملات مواجهة التحرش, ودار معهما حوار حول تلك الظاهرة في قاعة الضيافة قبل الدخول للاستوديو, كان من الغريب بالنسبة لي أن الشاب والفتاة قد اعتبرا أن البنات جزء أساسي من المشكلة بسبب ملابسهن المستفزة والضيقة وأجسامهن العارية.., ثم قالا لي: طبعا هذا الكلام لن نستطيع قوله داخل الاستوديو أمام شاشة التليفزيون, وهو ما أثار تعجبي, باعتبارهما يظهران غير ما يبطنان ولا يقدمان أفكارهما كاملة أمام الرأي العام, فضلا عن رؤيتهما الضيقة!!
اقترحت عليهما تنظيم لقاء أو ورشة عمل مصغرة حول تلك الظاهرة يحضرها علماء متخصصون من مختلف المجالات التي قد تكون لها علاقة بتلك الظاهرة, لكنهما استنكرا الفكرة وقالا لي: ما الفائدة؟! وهو ما اعتبرته استبعادا للعلم والتخطيط السليم في مواجهة ظاهرة معقدة ومتشابكة. أوضحت أن البنت حرة في اختيار ملابسها والصورة التي تظهر عليها, وعلي الشبان والرجال التزام الأدب, وعدم مضايقتها, لأن ملابس البنت لا يصح أن تكون مبررا للتحرش بها, كما أن تقييم ملابس الفتاة هو مسألة نسبية, تختلف من مكان إلي مكان آخر ومن زمن إلي زمن آخر, وما قد تعتبره أنت مثيرا للغريزة الجنسية قد لا يعتبره غيرك كذلك, ومن جانب آخر فلو أن شابا مؤدبا ومحترما يسير في الشارع, وفجأة شاهد فتاة عارية أو شبه عارية, هل سيتخلي عن أدبه واحترامه ليتحول إلي ذئب بشري يضايقها ويتحرش بها؟!
يشير الأمر إلي احتياج بعض الشباب المشارك في تلك المبادرات إلي مراجعة الكثير من الأفكار, حتي تكون أكثر تحضرا وتقدما ورقيا, والنظر إلي تلك الظاهرة وتحليلها بصورة أكثر عمقا, وقراءة الظاهرة في إطار من الشمولية, باعتبارها ظاهرة مجتمعية, وأن الكل مسئول عن مواجهتها.
في ظني أنه يمكن دعوة الفتيات للحشمة في معرض الكلام عن الفضيلة والوقار, وهي أيضا مسألة نسبية, كما أن دعوة الفتيات للحشمة هي مهمة الأسرة بالدرجة الأولي, التي تعيش في سياق ثقافي واقتصادي واجتماعي معين, وليست مهمة أي شاب يسير في الشارع ويتقمص دور الأب أو الأم أو الأخ, ويمارس وظيفة الدعاة ويقوم بدور الشرطة في ذات الوقت.
إن مواجهة ظاهرة التحرش الجنسي تحتاج إلي دراسة شاملة بحضور علماء اجتماع وعلم نفس واقتصاد وتاريخ وسياسة وخبراء تعليم وإعلام وفن ومجتمع مدني ورجال دين ومشرعين.., للوقوف علي أسباب الظاهرة وتطورها في السياق الثقافي والاجتماعي للمجتمع المصري, والبحث في سبل علاجها وطرق مكافحتها ومواجهتها.
في هذا الإطار فإن الأمر يتطلب عدة خطوات والكثير من الجهد علي النحو التالي.. أولا: تكاتف كافة مؤسسات المجتمع للحد من تلك الظاهرة, والتخلص منها, ما يعني الحاجة إلي تعاون المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية والإعلامية والفنية والمدنية والتشريعية والشرطية.., من أجل دعم وترسيخ ثقافة احترام المرأة, باعتبارها إنسان مثل الرجل. ثانيا: التنسيق بين الشرطة والمبادرات المعنية بحماية المرأة, حتي لا يتحول الأمر مواجهات أهلية تبعد عن تطبيق القانون الوضعي. ثالثا: تشديد العقوبات وتغليظها علي فعل التحرش الجنسي من خلال قوانين حاسمة وأحكام رادعة, مع تنفيذها بكل قوة وصرامة. رابعا مناقشة تلك الظاهرة ودراستها في مناهج حقوق الإنسان بأكاديمية الشرطة ومعهد أمناء الشرطة, حتي يكون العاملون بوزارة الداخلية علي وعي بتلك الظاهرة التي تؤرق أسرتنا المصرية.
د. رامي عطا صديق
[email protected]