أهاجر من يأسي إلي يأسي, وأمنح العشاق عودا, عليه تمايل الورد وجاور الأشواك, وأنحني للريح مثلما انحنيت اتجرع من الخذلان كأسي, أحمل الأيام وتحملني, تنال مني, تحرمني, لكنها أبدا لم تنتزع الحلم الراقد في أعماقي, الحلم الذي خبأته من أشواكي ومن يأسي, من انكساري وعقوق نفسي, لأنه ليس حلمي أنه حلم أختي, نعم أنا الأخت الكبري التي أغلقت صندوق الدنيا في وجه شبابها لتقتني لشقيقتها صندوقا مفعما بالأمل, نعم أنا الأخت الكبري التي خلعت تاج الأنوثة, وذهب الصبا, لتلبسهما لصغيرتها, أنا الأم الأخري, والبديلة, التي طفت فوق نيلها الحزين جثث المآسي وتلاطمت بين الشطوط بلا مراسي, فلم تنج ولم تغرق.
هذه الكلمات من وحي قصة إلهام, التي عاشت مآسيها في عطاء بلا مواربة, مسئولية خالية من الأنانية, تضحيات بلا مبررات ولا أعذار ولا تردد ولا تأخير, لتصل إلي بر الأمان بشقيقتها الصغري, بدأت قصتها معنا في العام 2010, حينما جائتني المرأة في الثلاثينات من عمرها ترافق والدتها العجوز التي كانت تعمل حينها عاملة في إحدي المستشفيات, تحمل خطايا من راعي الكنيسة التي تنتمي إليها يشهد فيه أن الأسرة تستحق المساعدة وتعاني من ظروف شديدة الصعوبة.
كانت الابنة الكبري ـ إلهام ـ تعمل آنذاك في رعاية المسنين, تنتقل من منزل إلي منزل طبقا للطلب, والصغري تدرس بالشهادة الإعدادية, والوالد بالمعاش ويعاني من مشاكل صحية.
أجرينا حينها بحث الحالة وبالتعاون مع الكنيسة قدمنا مساعدات قدر الإمكان طوال أحد عشر عاما, لم أر فيها إلهام مرة أخري إلا منذ أيام, حينما حدثتني قائلة: طول السنين إللي فاتت كنت أخجل أطلب أي شيء أكتر من المساعدة الشهرية لأمي وعلاجها, ورغم أن الحمل تقيل علينا إلا أن عملي مع المسنين بيمشي الحال, لكن الشغل من بعد كورونا أصبح صعب جدا, الناس بتخاف من أي حد يدخل بيتها علشان نقل العدوي, ولو دخلت بيت لرعاية مسن أو مسنة, ده معناه إني ماخرجش منه شهور طويلة, ده شرط أهالي المسنين, الحال أصبح غير الحال, وأختي هتتجوز ولسة علينا بقية تكلفة أوضة النوم, وحاجات تانية كتير.
استمعت إليها وحددنا موعدا للقاء, يجمع الأختين معي, لكن كما توقعت تماما جاءت الأخت الكبري بمفردها, سألتها لماذا لم تأت أختك؟ فصمتت, فأجبت نيابة عنها, لأنها اعتادت أن تضعك في المواجهة مع ظروفها ومطالبها واحتياجاتها, بكت إلهام في صمت علت الحمرة وجهها المشرق رغم سواد السنين, وفي خجل قالت: مش هي بس ده الزمن كله والناس كلها.
وبدأت تفيض بما في نفسها, تبوح بذكريات ربع قرن مضي قائلة: أتجوزت غصب عني, كان أبويا عايز يخلص من حملي, ويوم الإكليل العريس اكتشف أنه غير قادر علي ممارسة دوره كزوج, وبدل ما يطبطب علي ضربني, من الصعب جدا أوصف إلي حصل لي, لكن سهل أنك تتصوري ممكن يكون عمل إيه علشان يثبت رجولته.
وفي اليوم التاني, استدعي ممرضة وعملوا فض لغشاء البكارة, علي أمل أن لو الحال استمر كده ماقدرش أرفع بطلان زيجة, استمر الوضع لمدة شهر, ضرب كل يوم, تعبت لدرجة أن كل حتة في جسمي كانت بتنزف دم.
هربت من البيت رجعت بيت أبويا, ورحت الكنيسة فتحت ملف, ورفعت قضية في المحكمة, والملف والقضية استمروا 8 سنين لغاية ما حصلت علي حكم بطلان الجواز, علي أمل أني أقدرأرجع لحياتي, لكن أرجع أزاي ومين يصرف علي البيت, بعد ما اتعودوا أني اشتغل في بيوت المسنين وأشيل مسئولية الكل, العرسان طفشت مني, وماحدش كان بيصدق أن البطلان بسبب طليقي, خصوصا أن ماعنديش إثبات بعد فض غشاء البكارة والراجل الشرقي لا يعرف الطب الشرعي ولا تقاريره.
عقدة الرجل الشرقي ماتعرفش الورق والأدلة تعرف العادات والعرف والشكوك المغروسة في نفس كل راجل عن أي ست حتي لو كانت مظلومة.
وعدت السنين, راعيت أمي وأبويا لحد ما أبويا مات, وأختي اتخرجت من الجامعة, دي رسالتي, ودلوقتي باجوزها, لازم أكمل, مأقدرش أتخلي عنها ولا أسيبها هي إللي تروح تطلب من أي مخلوق حاجة. خلاص علي الوقت إللي هي تشيل فيه المسئولية دي, لازم أكمل دوري, أرجوكي ساعديني أكمل علي خير بعد كده خلاص أنا وأمي نونس بعض.
قاطعتها لافتة نظرها لأنها جميلة وصغيرة وربما تأتيها فرصة: جيدة فقالت: ماعادش في العمر فرصة لجواز, أنا عندي 45 سنة, مافيش حد هايقبلني بظروفي إلا واحد عنده فوق الـ65, أو عايز واحدة تخدمه, وكل الفرص إللي جاتني من النوع ده كان الناس عايزين يشتروا خدامة بلقمتها يبقي إيه قيمة جواز من النوع ده؟ وبعد شوية الحياة هاتقفل أبوابها علي فرصة الأمومة بالنسبة لي, يبقي خلاص إللي ماشفتهوش في نفسي أشوفه في أختي وأولادها, علشان كده لازم أفكر في أختي ربس, محتاجة أكمل جهازها لأن الديون تراكمت علينا والفرح قرب وعشمي في ربنا وفيكم.