ولد السيد المسيح بأرض الجليل أو جليل الأمم, ومعني الجليل باللغة العبرية الدائرة التي تعني الإحاطة لأنها كانت مفتوحة علي جميع الأمم الشرقية والغربية من غير تمييز. وكانت الجليل جزءا من أقاليم الشاطئ الشمالي التي كانت معروفة باسم كنعان التي كانت تتميز بالموانئ ووقوعها علي طريق التجارة من البحر الأبيض إلي خليج فارس.
ومن هنا توثقت علاقات أرض الجليل بجميع الحضارات الإنسانية, ومن هنا أيضا شاعت السماحة الدينية إلا أن هذه السماحة كانت منبوذة من اليهود المتعصبين علي تباين مللهم, وقد تمثل هذا التعصب في أمرين: تحجر الطقوس وسوء العلاقة بينهم علي الرغم من اضطرارهم إلي المعيشة المشتركة, ثم جاء المسيح ليقول لهم إن الله رب بني الإنسان وأن المحبة أفضل الفضائل وأن ملكوت السموات لا تفتحه الأموال بل المحبة اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
وروت الأناجيل الأربعة أن المسيح كان يعمل المعجزات في يوما لسبت, ومن هنا جاء خطابه مجاوزا لما هو رأي شائع من أن اتباع الناموس هو اتباع للحرف دون المعني أو الجوهر وهو المطلوب شرطا لدخول ملكوت السموات, ومن هنا جاء الخطاب البديل, وهو خطاب المحبة وهو خطاب يتميز بأنه لا يزهو بإعلان صيامه أؤ باتخاذ زي معين يعبر عنه عبوسه وصيامه. وفي هذا السياق قال السيد المسيح لتلاميذه: أما أنتم فإذا صمتم فادهنوا رؤوسكم واغسلوا وجوهكم حتي لا يظهر صيامكم للناس.
والمفارقة بعد ذلك أن المسيحيين مع الوقت تحول البعض منهم إلي متزمتين, ولكن مع نوع جديد من التزمت وهو الذي يحصر الإنسان في طائفة محددة أو بالأحري في جيتو منعزل عن الطوائف الأخري بدعوي أنها هي وحدها التي سترث ملكوت السموات.
وفي هذا السياق الجديد نقول: يسوع الناصري ويسوع النصاري, وفي هذا المعني شاعت عبارة مأثورة للأديب اللبناني المشهور جبران خليل جبران: كل ألف عام يلتقي يسوع الناصري بيسوع النصاري ولا يعرف أحدهما الآخر.
وتأسيسا علي ذلك كله يلزم إثارة السؤال الآتي:
كيف يمكن القضاء علي هذه الثنائية بين يسوع الناصري ويسوع النصاري بحيث يكون الإيمان ملازما ليسوع الناصري دون يسوع النصاري؟
يكون ذلك بانتقاء ما يتسق مع ذلك الإيمان علي أن يكون هذا الانتقاء مشروطا بما يمليه علينا قول السيد المسيح: اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وهو قول يستقيم مع الدعوة إلي العلمانية التي تعني في معناها الباطن فصل الكينسة عن الدولة, إذ لكل منهما رسالة منفصلة عن الأخري, لأن لكل منهما مملكته الخاصة.
وهذا هو مغزي قول السيد المسيح: مملكتي ليست من هذا العالم.
هذه مجرد تأملات وردت إلي ذهني في ذكري ميلاد السيد المسيح في أرض الجليل.