العمل الرئيسي للصحافة في كل عصر أو في كل أمة هو إيجاد الصلة بين الناس والأحداث التي تجري حولهم, إما في المجتمع الكبير الذي يعيشون فيه وهو الوطن أو الإقليم, وإما في المجتمع الأكبر الذي يعيش فيه أناس آخرون وهو العالم بكل ما يشتمل عليه من دول وأمم. ذلك أن هذه الأحداث التي تمر بالبشر, والتغيرات التي تطرأ عليهم في المجتمع لا يمكن أن يكون لها تأثير ما علي الإنسان أو تكون لها دلالة من الدلالات في نفسه مالم يقف عليها من جهة, ويدرك مغزاها من جهة ثانية. وهذا وذاك مما تقوم به الصحف والمجلات والإذاعات والأشرطة السينمائية ونحو ذلك من وسائل الإعلام في الوقت الحاضر.
من هنا ظهرت أهمية المقال الافتتاحي. ومن هنا اعتمدت عليه الصحف في تكوين ما يسمي بالرأي العام في الأمة.
ولقائل أن يقول: ولكن المقال الافتتاحي لا يقرؤه غير القلة. وهذا صحيح في جملته وتفصيله ولكن بقي أن نقول إن هذه القلة التي تقرأ المقال الافتتاحي هي الطبقة المستنيرة في الأمة.
إن لهذا المقال أصولا نبتغي مراعاتها في الكتابة. وإلا حكمت الصحافة علي نفسها بالبقاء إلي الأبد في دور البداوة ولم تحاول ـ وهي الداعية إلي التجديد والتطور ـ أن تخرج بنفسها من هذا الطور والانتقال منه إلي طور آخر ترتكز فيه الصحافة كغيرها من المهن الحرة الأخري ـ علي أصول فنية مدروسة, وقواعد سبقتنا جميع الأمم إلي تطبيقها وتقدمت علي أساسها تقدما ليس إلي إنكاره من سبيل.
ولا أريد أن أنبه هنا إلي هذه الأصول والقواعد, فمكان ذلك الجامعات والمعاهد ولكني أذكر هنا قاعدتين فقط علي سبيل المثال. والمعروف لدي علماء الصحافة أن المقال الافتتاحي تعبير واضح عن سياسة الصحيفة. وهي السياسة التي تميزها عن غيرها من الصحف. ومن هنا نجد الصحف الكبري تراعي في كتابة المقال الافتتاحي أمرين في وقت معا. الأول ـ عدم تذييل المقال الافتتاحي بتوقيع كاتبه. والثاني ـ عقد اجتماع يومي في دار الصحيفة يضم أعضاء هيئة التحرير ويناقش فيه موضوع المقال الافتتاحي. وفي كل ذلك تأكيد من الصحيفة للقارئ بأن هذا المقال هو المعبر عن سياسة الصحيفة وأن مسئوليته إنما تقع علي الصحيفة كلها وليست علي الكاتب نفسه في الحقيقة. وأما الثانية ـ من تلك القواعد التي ينبغي مراعاتها وكتابة المقال الرئيسي في الصحيفة فهي قاعدة التخصص.
فليس من الضروري أن يكون رئيس التحرير هو المسئول باستمرار عن كتابة هذا المقال. لا ـ بل يصح في بعض الأحيان أن يكتبه عضو آخر من أعضاء هيئة التحرير يكون قريبا في ثقافته من طبيعة الموضوع. بل يجوز للصحيفة في بعض الظروف أن تستكتب عالما أو أديبا أو سياسيا في موضوع المقال الرئيسي بشرط ألا يذيله بإمضائه.
والصحيفة التي تتبع هذه الأصول وامثالها جدير باحترام القارئ. وإنما يأتي ذلك الاحترام بطريقين:
الأول ـ ثبات الصحيفة علي سياسة واحدة لا تتغير بتغير الظروف والأحوال. وفي ذلك ما يجعل للصحيفة شخصية بارزة بين الصحف ويحمل القراء ـ كما قلنا ـ علي احترامها وتوقيرها علي الدوام.
والثاني ـ إمداد القارئ بالرأي السليم في كل مشكلة من المشكلات التي يتعرض لها المقال الرئيسي. لأنه رأي بني علي الدرس والاستقصاء ونحو ذلك. وهنا تصبح الصحيفة أهلا لأن يعتمد عليها الشعب وتعتمد عليها الحكومة.
وليس شك في أن من أوضح الأمثلة علي هذه الصحف في عالمنا الحاضر صحيفة التايمز. ورئيس هذه الصحيفة يعتبر في إنجلترا شريكا للوزارة البريطانية في المسئولية الملقاة علي عاتقها في الحرب والسلم. وله مكانة مرموقة لا تقل في إنجلترا عن مكانة رئيس الوزراء أو مكانة كاتب من أكبر الكتاب كمستر شو قبل وفاته. والفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل ونحوهما.
ما أجدر صحافتنا العربية أن تبلغ هذا المنزل. وما أخلقها أن تمثل الدور الذي تقوم به صحيفة التايمز. ثم ما أيسر ما تستطيع الصحف العربية أن تأخذ نفسها بمثل ذلك, وأنها لفاعلة بإذن الله.
نشر بتاريخ 1959/3/15م.