** أن تقرأ مأساة أو تسمع عنها فهذا شيء, وأن تعيشها فهذا شيء آخر.. مقولة قديمة سمعتها عشرات المرات, ولكني لم أكن أعيرها اهتماما فلم تثبت في ذاكرتي إلي أن عشت مأساة كيرلس ومن يومها وهي لم تغادر ذاكرتي.. حقيقي لو كنت قرأت مأساة كيرلس حتي ولو كان كاتبها أعظم المبدعين, ولو كنت سمعتها عشرات المرات حتي ولو رواها أقرب المقربين, ما كنت تأثرت بمأساة كيرلس كما عشتها معه.. أذكر لقائي الأول معه وهو محمول علي كتف أمه.. أبسط وصف له قطعة من اللحم لصورة طفل لا يتحرك, ولا يمشي, ولا يتكلم, ولا يسمع, رغم أنه كان في الثالثة من عمره..
أذكر يومها أن الأم أخذت تحكي لنا بدموع عينها قسوة مأساتها, لكن الأمر لم يكن يحتاج إلي مجرد تجفيف الدموع.. المأساة أكبر من احتمالها واحتمال أي إنسان.. الابن جاء بثقبين بالقلب.. والأقسي أنه ولد بمتلازمة داون وبكل ما يصاحبها من ملامح مميزة ومختلفة في الشكل, ومشاكل طبية عديدة, لم يصمد أمامها الأب, وتخلي عن الأم وعن الابن وتركهما يواجهان قسوة المأساة.. لكن الرب لم يتركهما.
وعشنا معهما 14 عاما نري يد الرب تمتد قبل أيادينا.. عشنا صدق القول المقدس: لا تحب بالكلام ولا باللسان ولكن بالعمل والفعل, حيث الحياة المسيحية الحقيقية التي تفرح بحمل الصليب بلا تردد, وبروح الشكر والرجاء بلا توقف.. وكان هذا أحد ملامح الصورة التي عشناها مع كيرلس ورأيناها بعيوننا في كفاح وصبر ومثابرة أم عظيمة, كان الرب معها حسب إيمانها ورجائها, وكنا معها وكل أصدقائنا صناع الخير.
** خلال معايشتنا مع كيرلس تجاوزنا كل المضاعفات والمتاعب الطبية التي واجهها, فمن بعد مشاكل القلب, بدأت تتواصل مشاكل التنفس وما صاحبها من التهابات في الجهاز التنفسي, ومشاكل في الأذنين وما تبعها من ضعف حاسة السمع وبالتالي الكلام, إلي نهاية القائمة الطويلة من المضاعفات الطبية التي تواجه كل الأطفال المنغوليين المولودين بمتلازمة داون من ضعف في العضلات وارتخاء في المفاصل.
** مأساة قاسية عشناها يوما بيوم مع كيرلس وأمه, إلي أن تغلب علي كل المعوقات الجسدية المصاحبة لمتلازمة داون, وعندما بلغ كيرلس العاشرة كنا قد نجحنا في تحسين مستوي التوتر العضلي, وبدأ يقف علي قدميه, ويتحرك, ويتكلم, ويدرك ما حوله..
من هنا بدأنا معه التحدي الأصعب نحو تنمية مهاراته للاعتماد علي نفسه.. مرحلة صعبة لا يعرفها إلا من عايشها, لكن كقول سليمان الحكيم: لأن بركة الرب تغني ولا يزيد معها تعبا فقد رأينا مع كيرلس كل الصعوبات تنهار وتنصهر.. طفرة كبيرة حدثت في الاهتمام المجتمعي بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة.. أبواب كثيرة تفتحت أمامهم للأخذ بأيديهم علي أسس علمية وتربوية.
ومع كل مرحلة عمرية كنا معه, من جمعية الملاك الأبيض, إلي مؤسسة أرض الحب, إلي مركز سيتي بجمعية كاريتاس الملحق بمدرسة دي لاسال بالظاهر..
وأخيرا أطل الرب بحنوه وأقامت كنيسة العذراء وأبي سيفين بمعصرة حلوان مدرسة أنقياء القلب لذوي الاحتياجات الخاصة ورأيناها خير مكان لقربها من إقامته, ولم ندرك أن الرب يعد له ما هو أفضل.. لم تكن مدرسة أنقياء القلب هي الأفضل لقربها منه فقط وستجنبه معاناة المشوار اليومي إلي الظاهر والعودة إلي حلوان.. كان ترتيب الرب يفوق عقولنا.. كانت مدرسة أنقياء القلب بإمكاناتها وقدرات القائمين عليها نقطة تحول كبيرة في حياة كيرلس.
** الدكتورة هايدي مجدي أنور مديرة مدرسة أنقياء القلب أكدت لنا من البداية أن كيرلس ككل الأطفال المصابين بمتلازمة داون نتيجة مشكلات في الجنين قبل الولادة يعانون من تغيرات في بنية الجسم, ومظاهر مميزة في الشكل, وضعف في القدرات الذهنية, إلا أنه بالتعليم والرعاية وتنمية مهاراتهم يمكن الوصول بهم إلي درجات متقدمة من جودة الحياة والاندماج في المجتمع, وهذا ما نعمل عليه.
وأكدت أيضا أن كيرلس بكل ما تلقاه من اهتمام ورعاية طبية وتعليمية تجاوز الكثير من درجات الإعاقة ويمكن إدراجه ضمن الفئات المتوسطة.. وفي آخر محادثة لي مع الدكتورة هايدي أكدت لي بكل الاطمئنان أن كيرلس وصل إلي درجة متقدمة في التغلب علي الإعاقة فصار أكثر تواصلا سمعيا وبصريا, وأحسن حركة ونشاطا, ونحن مستمرون معه في الجلسات الحركية للوصول به إلي درجة أسرع في الحركة.
وأشركناه في برنامج تعليم السباحة لما للنشاط الرياضي من نتائج مرضية في التغلب علي الإعاقة الجسدية, وعلي الجانب الأكاديمي تعرف الآن علي كل الحروف نطقا وكتابة, وكان سعيدا جدا عندما بدأ يكتب اسمه ويواظب علي حضور القداسات ويتسابق في لبس التونية والوقوف مع الخورس, وعندما اكتشفنا حبه للألوان وشغفه بالرسم نصحبه ضمن برنامجنا اليومي إلي مرسم يتدرب علي أيدي فنانين تشكيليين, ونشكر الله أنه في تحسن كبير, ونحن معه في تواصل أكثر وأسرع.
** كلمات الدكتورة هايدي طمأنتنا كثيرا.. وعندما قالت: نشكر الله أنه في تحسن كبير أحسست بصدق كلماتها.. هي لم تكن معنا في رحلتنا مع كيرلس علي امتداد 14 عاما, لكنها تدرك ربما بإحساسها وربما بخبراتها كأستاذة تحمل دكتوراه في الصحة النفسية, أن ما وصلنا به مع كيرلس لم يكن إلا بمعونة الرب.. مع الدكتورة هايدي ومع كل الأصدقاء نشكر الله.. افرحوا بالرب وابتهجوا يا أيها الصديقون.
صندوق الخير
1000 جنيه طالبة شفاعة العذراء ومارجرجس
2000 جنيه من يدك وأعطيناك
1000 جنيه صديق من الإسكندرية
—-
4000 أربعة آلاف جنيه لا غير