** في لقائي معكم الأحد الماضي بدأت أنسج لكم من خيوط قصة كيرلس رداء الفرح, لكن الرداء لم يكتمل, فمشاهد الفرح فيه كثيرة, وها أنا أعود لأواصل.. الخيوط طويلة بطول مأساة طفل جاء إلي الدنيا بقلب مثقوب, وخضع بعد شهور لجراحة كبيرة ودقيقة, وأمكن إنقاذ حياته, لكن مأساة الطفل كانت ممتدة طولا وقسوة, ووجد والداه أنفسهما أمام طفل مختلف, ليس الاختلاف في ثقوب القلب, لكن الله يشاء في تجربة صعبة أن يرزقهما بطفل معاق ذهنيا..
الأم تقبلت عطية الله بشكر, أما الأب فضاق وتذمر ورفض وترك الابن لا يتكلم ولا يقف ولا يمشي ولا يدرك شيئا ممن حوله, تركه واختفي, أما الأم احتضنته بشكر, ووقفت تواجه وحدها مأساة الابن, وقسوة الأب الذي تركها تتقاذفها الأمواج, وفلذة كبدها في أحضانها ومحمولا علي كتفها.. أخذت تبحث عن مرسي ترسو عليه ليسند ظهرها, يأخذ بيدها, وفيما هي تحاول قذفتها الأمواج إلي حقل الخير.. كان الصغير عمره يومها ثلاث سنوات.
** أذكر يومها أن الأم أخذت تحكي لنا بدموع قسوة مأساتها.. لكن الأمر لم يكن يحتاج إلي مجرد تجفيف الدموع.. جاءت بعد أن ضاقت بها الدنيا.. لم تكن مشكلتها وقتها في تخلي الأب, ولا في قسوة الحياة, لكنها كانت أمام مأساة جديدة عجزت عن مواجهتها.. فوسط كل هذه الأهوال تعرض الابن إلي التهاب شعبي ربوي حاد.. اصطحبناهم إلي مستشفي السيدة العذراء بالزيتون ليخضع الابن برعاية طبية دقيقة تحت إشراف الدكتور مكرم صبحي استشاري الأمراض الصدرية والحساسية, وبعلاج دوائي مكثف استمر نحو خمسة شهور أمكن تجاوز الأزمة.. ومن هنا أمسكنا بطرف الخيط..
** بداية الخيط الأزمة الصدرية, لكنه ممتد بطول مأساة عمرها الآن من عمر كيرلس 17 عاما.. علي امتداد هذه السنوات كانت الأم مطحونة في البحث عن مسكن بعد أن طردت من منزل الزوجية, والجري في دهاليز المحاكم من أجل نفقة تساهم في نفقات علاج الابن وتدبير احتياجات طفل رضيع ولا حياة لمن تنادي.
الأهم أنه كان علينا أن نخرج بالابن كيرلس من دائرة الإعاقة.. ومن هنا بدأنا معه جلسات علاج طبيعي لمواجهة ارتخاء العضلات والفقرات التي أعاقته عن الحركة والمشي, وأثنائها ومن بعدها جلسات تخاطب لمواجهة التأخير في الكلام, ومن بعدهما تأهيل ذهني.
** البداية كانت في مركز سيتي بجمعية كارتياس حتي بلغ السابعة من عمره, وبدأ يتحول في خطوات بطيئة, ولكن بكلمات غير معبرة وليست مفهومة في غالبيتها.. هنا امتد بنا الخيط إلي مرحلة أبعد في مركز نحو حياة أفضل دي لاسال بالظاهر.. وهناك واصل التدريب علي التخاطب, وكان الأهم في هذه المرحلة الاندماج في مراحل تعليم ذوي الاحتياجات الخاصة.
** مشوار صعب كان العبء الأكبر فيه علي الأم المثالية التي تحملت الكثير في حب وشكر.. يكفي أنها ظلت تحمله علي كتفها حتي سن العاشرة حينما بدأ يتحرك ويمشي.. تنتقل به يوميا من حلوان حيث تقيم وابنها في شقة متواضعة ـ إيجار قانون جديد ـ إلي وسط المدينة في حي الظاهر حيث مركز نحو حياة أفضل تتركه 6 ساعات في رعاية آمنة يحاولون معه تنمية مهاراته في الكلام والمشي والاعتماد علي النفس, تتركه وتذهب إلي عملها في مكاتب إحدي المصالح الحكومية التي تبعد لمسافات أخري, لتعود تحمله علي كتفها في رحلة العودة إلي منزلها في حلوان..
رحلة شاقة يوميا لو كانت هي وحدها شقاء حياتها لاستحقت كل التقدير والتبجيل, لكن قسوة القدر لم تقف عند هذا.
** خيوط القصة طويلة وممتدة تخللتها وعكات صحية مرات ومرات, وعندما بلغ العاشرة من عمره كان الرأي الطبي الحاسم ضرورة استئصال اللوزتين واللحمية لأنهم السبب في كثير من المتاعب الصحية التي تواجهه, وقام الدكتور عادل سامي استشاري جراحة الأنف والأذن والحنجرة بإجراء الجراحة بنجاح وتخلص كيرلس من خطورة تعرضه للإصابة بالروماتيزم, وبدأ يتمتع بسهولة التنفس بعد استئصال اللحمية..
الأهم عندما بلغ كيرلس العاشرة كان قد بدأ يعتمد علي نفسه في الحركة والمشي, وارتاحت الأم الصامدة من حمله علي كتفها, أو وضعه في عربة صغيرة تجرها ذهابا وعودة, وكثيرا ما اضطرت أن تحملها بيدها إذا احتاجت في تنقلاتها مع كيرلس أن يستخدما مواصلات.. وشكرنا الله أنه من هذا السن بدأ كيرلس يعتمد علي نفسه.
** عشر سنوات مضت من حياة كيرلس رأينا فيها يد الله تمتد كل يوم.. عشنا قصة مأساوية لطفل جاء إلي الحياة مختلفا ليتمجد الرب ونري عظيم صنيعه.. وفي الحقيقة أن تقرأ مأساة أو تسمع عنها شيئا, وأن تعيشها شيئا آخر.. وصدقا ما أجمل القول الكتاب المقدس لا تحب بالكلام ولا باللسان ولكن بالعمل والفعل حيث تكون روعة الحياة المسيحية الحقيقية التي تفرح بحمل الصليب بلا تردد, وبروح الشكر والرجاء بلا توقف.. وهذه كانت إحدي خيوط قصة كيرلس التي رأيناها متجلية في كفاح وصبر ومثابرة أم عظيمة.. كان الرب معها حسب إيمانها ورجائها, وكنا معها وكل أصدقائنا صناع الخير نمسك بأطراف الخيط وننسج رداء الفرح.
** من بعد العاشرة في عمر كيرلس بدأنا معه مرحلة جديدة لتنمية مهاراته.. لم تكن صعبة كالسنوات التي سبقتها, وأيضا لم تكن سهلة فقد خففت من صعوبتها صور الفرح الكثيرة التي رأيناها تتلألأ فوق الرداء عن هذه المرحلة سأحدثكم في لقائنا القادم ونتمتع جميعا برداء الفرح.