قناع أرعب القارة الأوروبية لقرون عديدة بسبب شكله حتي اطلق الناس عليه “قناع الموت”، وعند ظهور اصحاب هذا القناع بالمنقار الذي كان يميزه في شوارع فرنسا، كان الناس ينظرون إليهم باعتبارهم “رسل الموت” و “موزعين عقوبات الله” لتقليل تعرضهم للمرض.
ويرجع السبب لظهور مثل هذا القناع هو الأمراض والاوبئة التي اجتاحت العالم خاصة خلال القرن السابع عشر الميلادي في اوروبا، خاصة وباء الطاعون او “الموت الاسود” إشارة الي السرعة التي انتشر بها الطاعون في القارة الاوروبية، وفي مناطق مختلفة من العالم ليسفر عن سقوط عشرات الملايين من الضحايا.
وبسبب ان اطباء الطاعون كانوا على اتصال مباشر بالضحايا، فقد كانوا معرضين لخطر الاصابة بهذا الوباء بشكل كبير، ولذلك قام الاطباء باتخاذ الاحتياطات الازمة والتي من شأنها تقليل هذا الخطر. ومن هذه الاحتياطات كان الاطباء يرتدون بدلات واقية عرفت بـ”الزي او بدلة الطاعون” الذي اخترع في عام 1619 واصبح شائعا بين الاطباء.
ويمكن القول ان “طبيب الطاعون” هو واحد من اكثر الشخصيات الغامضة التي ظهرت في فترات الاوبئة في اوروبا، فهؤلاء الاطباء الأوروبيين المتخصصين في علاج ضحايا الطاعون، كانوا في الاساس موظفين عموميين استأجرتهم القري او البلدات او المدن عندما يضرب الطاعون المنطقة، ومن الناحية النظرية كانت المهام الاساسية لطبيب الطاعون هي علاج الضحايا ودفن الموتى، وكان اطباء الطاعون ايضا مسؤولين عن حصر عدد الضحايا في دفاتر السجلات العامة، وتوثيق اخر رغبات مرضاهم، والغريب انه كان يتم استدعاء اطباء الطاعون في كثير من الاحيان للإدلاء بشهادة وإرادة الموتى ووصاياهم الاخيرة، وفي بعض الاحيان كان يُطلب من الاطباء إجراء تشريح للجثث من اجل فهم افضل لكيفية علاج الطاعون .
ويعتبر الطبيب “تشارلز دي لورم- Charles Delorme” طبيب من القرن السابع عشر هو المصمم الرئيس لزي الطاعون، وكان مشهورا بممارساته الغريبة، وعلى الرغم من هذا كان طبيب شخصي لـ 3 ملوك فرنسيين وهو الملك هنري الرابع، والملك لويس الثالث عشر، والملك لويس الرابع عشر، وقد صمم “دي لورم” الزي على غرار الملابس التي يرتديها الجنود داخل الجيش الفرنسي، حيث كان الزي يتكون من معطف جلد ثقيل يغطي من الرأس الي الكاحل، وقفازات واحذية مصنوعة من جلد “الشامان” و جلد “الموروكان” المشمع، وكانت مهمة هذا الزي هو منع اي اتصال جسدي غير محمي مع المصابين، بالإضافة الي القبعة الجلدية واسعة الحواف ولم يكن لها هدف اساسي لارتدائها، ولكن كان لابد من وجودها كتقليد لابد من وجوده في اي عمل خلال القرن السابع عشر الميلادي.
وكان أكثر الأجزاء تميزًا من الزي هو القناع ذو المنقار الشبيه بالطيور، لمنع مرتديها من استنشاق الهواء ذي الرائحة الكريهة، الذي يُعتقد أنها تنشر المرض، وكان المنقار ممتلئ بالأعشاب الطبية المعطرة، لحمايتهم من مرض الطاعون، كما كان الزي يحتوى على ثقوب وضع فيها نظارات زجاجية مستديرة، وكانت علامة مميزة للطبيب ومهنته. ووفقًا لأحد المصادر، اعتقد الناس ذات مرة أن الطاعون انتشر عن طريق الطيور، لذلك قد يكون استخدام مثل هذا القناع نابعًا من الاعتقاد بأن المرض يمكن إزالته من المريض عن طريق نقله إلى الملابس.
وعند ظهور أطباء الطاعون بالمنقار في شوارع فرنسا، كان الناس ينظرون إليهم باعتبارهم رسل الموت وموزعين عقوبات الله لتقليل تعرضهم للمرض. كما استخدم هؤلاء الأطباء خشبة طويلة لفحص نبض المصابين في الشوارع وفحص الحالة المتدهورة لجلودهم، وللدفاع عن أنفسهم ضد جحافل المصابين البائسين الذين يقتربون منهم ويتوسلون لوقف الألم المبرح الذي يشعرون به.
ورغم أن ذلك الزي كان مصمما بطريقة معقدة لحماية مرتديها من الإصابة بالطاعون إلا أن الإصابات بين الأطباء كانت تنتشر، لأنهم عالجوا المصابين بأدوية غير فعالة، ولم يكونوا على دراية بالسبب الحقيقي للمرض، لذلك كانت ملابسهم المعقدة عديمة الفائدة.
ويرجع السبب وراء اختراع هذا الزي هو إيمان الاطباء بنظرية غريبة حملت اسم “نظرية الميازما-Miasma Theory” وبموجبها القي الاطباء باللوم على الروائح الكريهة الملقبة بالهواء الفاسد، الصادر عن الفضلات واللحم المتعفن وعدد من الاشياء الاخرى الكريهة، متهمين اياها بالتسبب في نشر المرض.
وبحسب نظرية الميازما، كانت الروائح الكريهة قادرة على إفساد الهواء وجعله ملوثا ومحملا بالأمراض، وحال استنشاق هذا النوع من الهواء، يصاب الكائن الحي بالمرض ويكون عرضه للموت، وظلت نظرية الميازما قائمة لقرون عديدة، إذا اعتمدها الاطباء لتفسير العديد من الاوبئة ولعل ابرزها الطاعون والكوليرا والملاريا، كما أن معايير النظافة في القرن السابع عشر كانت منخفضة للغاية، فإن انتشار الطاعون كان من خلال عدة وسائل مثل انتقال العدوى، ولدغات البراغيث والفئران وتناول الأطعمة والسوائل الملوثة بالمرض، وأصبح أغلب الأطباء الذين يعانون من الطاعون، مرضى بائسين مثل العامة، يحاولون علاج أنفسهم من هذا الوباء.
ولكن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، زالت تلك النظرية القديمة بالتزامن مع تقدم الطب وظهور نظرية “جرثومية المرض- Germ Theory of Disease” وان هناك جراثيم وميكروبات هي التي تتسبب في الامراض والأوبئة