صوت مفعم بالحياة, لامرأة في منتصف الأربعينات, تشكر الظروف التي مكنتها من الوصول إلي باب افتح قلبك, الابتهاج يسبق الكلام, تطلب موعدا للقاء سري للغاية-حسب تعبيرها-اتفقنا, وفي الموعد المحدد لم تأت, أو هكذا ظننت.
في طريقي لغرفة المقابلات تفحصت وجوه المنتظرين, تطاردني التخمينات أيهم التي هزمت المعاناة واستطاعت الاحتفاظ ببهجة الروح هكذا؟ في الموعد دخلت الغرفة امرأة كفيفة, تطل من وجهها الجميل ذات الروح المبتهجة,كانت أولي المفاجآت أنها فاقدة للبصر.فقدت النور القادم من خارجها, فانبثق النور الأعظم داخلها, نور قد نحيا نحن المبصرين ونموت دون أن نلمسه أو نراه بأرواحنا كما تلامست معهمريم.
مريم تبلغ من العمر47عاما, تزوجت وعمرها 19سنة من ترزي حريمي وأنجبت ابنتين وابنا…أرملة منذ ست سنوات لم تجد من يأتي بها إلي مقر الجريدة فاصطحبتها جارتها ربما تتمكن من الوصول لمبتغاها,سيطر الفضول علي ذهني الشارد ولملم شروده, طلبت منها أن تروي قصتها وسر بهجتها التي ترافق نبرة صوتها رغم أنها تحيا في الظلام فبدأ تروي قائلة:
الضلمة مش في عيني الضلمة كانت كل حياتي اتحملت وصبرت ماكنتش علي وفاق مع جوزي الله يرحمه, كان أكبر مني بـ25سنة, الغيرة وفرق السن ساعدوه علي الجفا, قساوة القلب والمعاملة المهينة والشتيمة كانوا نظام حياة مش مشاكل طارئة من أول ما نصحي لغاية ما ننام,وخلفت الولد الكبير وكان لازم أتحمل زي ما علمونا الست الشاطرة تحافظ علي بيتها بس ماحدش علمنا إزاي يكون عندنا كرامة, ولا أن صحتنا مهمة ولا أن إللي يفرط في كرامته ممكن يقعد طول العمر مفرط فيها.
وعدت السنين وخلفت البنت الأصغر وكنت حامل في الأخيرة, عدت السنين وهو مش بيتغير وفي يوم اتلكك لي وضربني وساب البيت وأخذ الولد معاه كنت وقتها كويسة وباشوف لكن الزعل والضرب والبكاء المستمر ممكن يتسب في أي مرض لما أخد ابني مني, حصل لي انهيار وصداع شديد, وفجأة اسودت الدنيا مابقتش شايفة حاجة دخلت في حالة هيستيرية مش شايفة وفي إيدي طفلة,وحامل وجوزي خطف مني ابني وسابني وأهلي غلابة جدا علي قدر حالهم لكن أخدوني ولفينا علي الدكاترة ومن مستشفي لمستشفي ومن فحص لفحص عرفنا أن ضغط العين ارتفع جدا فجأة من قوة الزعل وأن في إصابة بمياه زرقاء.
الأيام كانت بتعدي تقيلة والأحزان غويطة والمستقبل عمتة عملت عمليات جراحية ونظري برضه مارجعش وحل ميعاد الولادة وخلفت بنتي الصغيرة نور عيني كنت باحس بأنفاسها وأسمع حتي سكاتها وأشوف بعيونها اللي لسه مغمضين لكن مستحيل هاتعيش معايا أكثر من فترة الرضاعة, هاراعيها إزاي؟وكان لسه الأمل ما نقطعش في أن نظري يرجع فالكنيسة أخدتها مني ودخلت بيت يتيمات واتيتمت بنتي في وجودي, لا أم ولا أب صحيح ياما الملاجئ بتصون لكنه في الآخر أي ملجأ حضنه برد وونسه وحدة واستسلمت لإرادة الله ومشيت في طريق الجراحات مرة ثانية عملت 9جراحات خلال سنتين ومافيش فايدة, ولا ابني رجع ولا نظري رجع ولا جوزي رجع ولا بنتي رجعت.
تكمل مريم والابتسامة لم تفارق وجهها قائلة:أنا راضية صدقيني راضية ياما في ناس حالهم أسوأ بكتير مننا وياما اتعذبت زمان عذاب أكثر من الظلام اللي عايشة فيه دلوقت, لكن الضربة القوية علي قلبي اللي حصل بعد كده جوزي ظهر في حياتنا تاني عايز يرجع لنا ومعاه ابني طبعا كان شرط مقابلتي لأني أوافق أرجع له ووافقت ما كانش فيه اختيار تاني وبعدما رجعنا عرفت أنه أصيب بفشل كلوي وماحدش ينفع يجري بيه غير الولد اللي أصلا أجبره يخرج من التعليم بعد ما أخد الابتدائية وشغله في محلجزم وقضينا أيام سودة أسود من الضلمة اللي في عيني أي حد يقدر يتصور اللي راجع وهو عارف أنه بيموت ممكن يعاملنا إزاي ومع ذلك وقفت جنبه لكن ربنا استرد وديعته.
بعد موت جوزي الأيام استكترت علي آخد راحة بين المصايب وبعضها وقررت تديني الضربة الكبيرة, وفي يوم بنتي الكبيرة صحيت من النوم تعبانة ومصدعة إدتها مسكن لكن الصداع كان بيزيد وفجأة صرخت صراخ فظيع ووقعت ولقيتها بتقول الدنيا سودة يا أمي جرينا علي المستشفي كان واضح من الفحوصات أن الحالة متأخرة وكانت وقتها في امتحانات الإعدادية لما شعرت بهمس الدكاترة بكت بحرقة وقالتأنا عميت يا أمي عميت خلاص مش هاتعلم مش هاتجوز مش هاعيش زي بقية البنات وللأسف كلامها كله صحيح بعد الفحوصات والجراحات نظر بنتي راح تماما وبقت كفيفة زي أمها ماكنتش قادرة أصدق إللي بيحصل ولا عارفة ليه بيجري لنا كل ده لكن كنت راضية بس الرضا مش بيجيب الأكل والشرب ويدفع الإيجار ويحنن قلب ابني اللي اتربي بعيد عن حضني.
الرضا ممكن يخليني أتحمل لكن مش هايخلي صاحب البيت يصبر والإيجار مكسور ست شهور والشهر بأربعين جنيه يعني المبلغ 240 جنيه ماقدرش ادفعهم الرضا جايز يخليني لسه باضحك رغم الدموع اللي نازلة من ضلمة عيني لكن مش هايجيب لبنتي جهازها بعد ما اتقدم لها عريس وماعنديش أي حاجة أجهزها بيها ولا هايدفينا من برد الشتا, ولا هايحنن قلب ابني علينا.
الرضا يخليني شايفة أن ابني ضحية أبوه, لكن مش هايخليه يغير موقفه من أنه عايز يمشيني أنا وأخته علشان يتجوز في الشقة, الرضا هايخليني مبسوطة بـ550 معاشي و300 معاش بنتي لكن مش هايجيب لي غسالة علشان أقدر أغسل ولا أدوات مساعدة علشان المكفوفين وسهولة الاستخدام,الرضا يخيلني اتحمل الفراق عن بنتي الصغيرة علي أمل أنها بتتعلم كويس لكن مش هاينسيني حرماني منها أنا راضية لكن موجوعة.وانسابت دموع مريم علي وجهها الباسم, ارتفعت نبراتها المفعمة بالبهجة يغلفها شهيق الألم وزفير الراحة وأنين السنوات الفائتة وهي تردد رجاء واحدا, أن كل ما روته يظل سري للغاية لأن ابنتها علي وش جواز ولا أعلم من أين تأتي السرية في حكايات تفاصيلها محطات رئيسية في حياة أصحابها, مريم ليس لديها أزمة احتياج بالمعني المتدوالمبلغ شهري أو مساعدة طارئة وأنما لديها أزمات متعددة أولها ضيق الحال الذي يمنعها عن استخدام أيه أدوات مساعدة مثل الغسالة والفرن والتقنيات التي تساعد المكفوفين في البيت, خاصة أنه لا معين بعد أن كف بصر ابنتها أيضا هذا فضلا عن أن 850 جنيها إعانة من الدولة لن يكفي لدفع الكهرباء والغاز والمياه والإيجار والطعام والمعيشة مبلغ لايمكن أن يسير أسرة لكنها أسرة صامدة علي أي حال.
—————————
من أبو غطاس-المنيا للمدينة الصاخبة
حينما يهاجر الشباب من الريف للحضر من العزبة للمدينة من القرية للعاصمة تحدث لهم صدمة حضارية وثقافية عنيفة, والصدمة الثقافية ,كالبلاد الأجنبية وينطبق ذلك علي النازحين من الريف للحضر داخل بلادهم وترتفع هذه الصعوبات بسبب ضيق استيعاب الثقافة الجديدة, سواد اختلاف العادات والتقاليد أو طبيعة ردود الأفعال وإيقاع الحياة اليومي الأمر الذي يؤتي ردود أفعال علي بعض الشباب غير محببة مثل الشعور بالوحدة, والاضطراب, وأحيانا الانضمام لجماعات السوء التي تصحبهم حيث صخب المدينة وعملها الذي يعتمد عليالخفة والفهلوة إذا لزم الأمر.
لكن لم يحدث ذلك مع مايكل بل حدث العكس تماما وتغلب مايكل علي كافة الصعاب التي واجهته, أنه شاب عمره22سنة حاصل علي دبلوم صنايع من سكان المنيا عزبة أبو غطاس شهم وصاحب مروءة تكفي لأن يصدر نفسه في كل كبيرة وصغيرة لعائلته, ومعارفة حتي يخدمهم ويسعدهم.
جاء مايكل من الصعيد باحثا عن علاج لساقه التي كسرت عقب حادث سير ولم يكن من الممكن تجبيسها بسبب الجروح الشديدة التي اصابت الساق والده موظف من أصحاب الـ 5% ذوي احتياجات خاصة جاء إلي القاهرة طالبا العلاج الطبيعي ليتمكن من العودة لعمله كهربائي كما كان, ساعده باب افتح قلبك في إجراء 24جلسة علاج طبيعي ووصل إلي حالة التعافي التام.
المفاجأة أن مايكل لم يعد إلي العزبة كما كان مرتبا له, بل نجح في الحصول علي عمل كفرد أمن, وبدأ يخدم أفراد عائلته ويتوسط لهم لدي كل من يستطيع مساعدتهم فرغ طاقته في الخدمة واستثمر الثقافة المغايرة لثقافته الأولي في بناء نفسه وخدمة غيره, اللافت في الأمر أن عائلته تضم حوالي عشر حالات إصابة بالمياه البيضاء في العيون وجميعهم معدمون ومايكل لايمل من السؤال والطواف علي من يساعدهم, حالة فريدة تستحق الإشادة والمساعدة, فالفقراء أيضا لهم قصص إيجابية حتي وهم يبحثون عما تقتاتون به وسط عالم مسعور, قصص تستحق المساندة والدفع للأمام ودعم مواطن القوة في نفوس كان مقدرا لها الضياع لكنها لم تضل ولم تيأس…تحية لكل من يدخل المعترك عودا لينا ليصبح جذعا ثابتا ضد رياح التجارب وفروعا تلقي بظلالها ليحتمي الآخرون من لفحة المعاناة.