لا شك أن إشارت التنوع الثقافي واضحة في خطابات الرئيس الأمريكي جو بايدن واختياراته وقرارته التنفيذية الأولى، ويمكن القول أن حرصه إبراز حرصه على التنوع الثقافي جاء وكأنه إعلان للقطيعة مع سياسات خلفه دونالد ترامب الذي لم يتوانى عن إظهار شوفنيته وعنصريته. ووفق موقع الجارديان، فإن اختيارات بادينتعكس درجة ربما غير مسبوقة من التنوع الجندرى والعرقى، والأمر لا يتعلق فقط بعدد النساء وفي إدارته، بل لأن بعضهن يشغل مناصب لم تشغلها نساء من قبل، ولعل شخصية نائبة الرئيس كامالا هاريس، تعكس جميع هذه الأبعاد. ولا شك أيضا أن هذاالتنوع هو أحد العوامل التي ساهمت في وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض. وقد عززت قراراته التنفيذة الأولى هذا الانطباع بشأن احترام التنوع والتعددية الثقافية، سواء تعلق الأمر بإلغاء قرار ترمب المتعلق بمنع مواطني بعض الدول، أغلبها دولا إسلامية، من دخول الولايات المتحدة، أو تعليق العمل بالجدار الفاصل مع المكسيك، وحتى العودة إلى اتفاقية التغير المناخي، حيث أن قضايا البيئة لا تعني فقط حماية التنوع البيولوجي، بل هي في مقدمة شروط حماية التنوع الثقافي كذلك.
ومع ذلك، فإن مسألة التنوع والتعددية الثقافية، خاصة عندما ترتبط بالمجال السياسي، تظل مثيرة لتساؤلات. وثمة بعدين يتعلقان بالتفكير في توجهات جو بادين في هذا الصدد، بعد داخلى يتعلق بالأوضاع الثقافية والسياسية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد خارجي يتعلق بالمواقف الأمريكية إزاء المشهد الثقافي خارج الحدود الأمريكية. ولأن البعدين يحكمهما المواقف والمصالح السياسية، فإن وضعهما موضع تساؤل يظل أمرا مشروعاً، لأنالتوجهات السياسية التي تحكمها توازنات القوى والمصالح تحمل بداخلها آفات إفساد التنوع الثقافي، بغض النظر عن كونها توجهات ناعمة أو خشنة.
وفيما يتعلق بالبعد الأول، الداخلي، فإن إشارات بايدن الأولى تبدو مبشرة، وقد تكون كذلك بالنسبة لأنصاره على الأقل، لكن بالمقابل لا يمكن تجاهل مواقف الجانب الآخر والذي يمثله ذلك التعبير الذي أصبح شائعا، أي “الترامبية”، فرغم أن ترامب خرج من أروقة السلطة، إلا أن معظم الآراء تؤكد أن الترامبية واقع يفرض نفسه.وقد تكون سياسة بايدن، إن صدقت، جيدة في حد ذاتها، ولكنها بالمقابل قد تعمل على تنشيط الاتجاهات المناوئة، وهي ليست بالقليلة. وعندما تتساءل وسائل الإعلام المختلفة حول إذا ما كان بايدن قادرا على توحيد الأمتين الأمريكتين، ففي ذلك إشارة إلى إنقسام يتجاوز حدود الانقسام الانتخابي بين الديمقراطيين، والجمهوريين، إلى إنقسام ثقافي بين الأمريكيين أنفسهم، وهو إنقسام قديم يعكس ميراث ثقافي عميق. وربما لا يكون نشر أفكار التنوع والتعددية الثقافية هو التحدي الذي يواجه بايدن، بقدر ما هومواجهة النزوعات الشوفينية والعنصرية التي كانت “الترامبية” إنعاكسا لها.
أما على الصعيد الخارجي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا تمتلك رصيدا كافياً يؤهلها لأن تلعب دورا رياديا في مجال التنوع والتعددية الثقافية، فصورة أمريكا ظلت دائما رمزا للهيمنة ولتنميطات العولمة، حتى أن تعبير “الأمركة” كان، وربما مازال، أحد أكثر الأوصاف السلبية للعولمة. وفي كل الأحوال، ومهما كانت موقفنا من الولايات المتحدة، فإنها القوة العظمى التي تمتلم مقومات الهيمنة والتأثير من خلال القدرات العسكرية والإعلام وتكنولوجيا المعلومات والمؤسسات الأكاديمية والإنتاج السينمائي وغيره من العوامل المؤثرة على المستوى الكوني. وإذا ما تم مقارنة الولايات المتحدة بالصين بوصفها القوة الأكثرة قدرة على غزو الأسواق، يمكن أن نقول أن الولايات المتحدة تنتج الثقافة وتصدرها، فى حين أن ما تنتجه الصين هو مجرد سلع تستجيب للاختلافات الثقافية وتوظفها تجاريا ليس إلا.
وعلى الجانب الآخر، شهدنا بداية من سنوات الألفية الجديدة أكبر نموذج للتوظيف السياسى للثقافات وكان منبعه الساسى أروقة السياسات الأمريكية، وهو النموذج الأحدث والذى سيطر على الاتجاهات الثقافية منذ ما يزيد على عقدين من الزمان، واقصد بذلك نموذج صراع الحضارات أو حواراتها والذي احتل المشهد الثقافي والسياسي بامتياز وارتبط عضويا بالحرب على الإرهاب أكثر من إرتباطه بحقوق الإنسان. وإذا كان الاستشراق الأوروبي أداة استعمارية في زمن الإمبراطوريات التقليدية، فإن نموذج صراع الحضارات وحواراتها، الأحدث زمنيا، لم يكن بعيداً عن الاستخدام الوظيفي لسياسات الهوية فى سوق الاستثمار السياسي والأمني، وليس غريباً أن تكون معادلة هذا النموذج الأساسية هي: الأديان كتعبير ثقافي والإرهاب كتعبير سياسي.
فإذا اخذنا في الاعتبار تحديات الداخل الأمريكي كأمة أو “أمتين”، ومعضلات الخارج ممثلة في فقر الميراث الأمريكي في مجال التنوع والتعددية الثقافية، مع عدم تجاهل أن التوازنات الدولية لم تعد تشكل بيئة ملائمة للخلاص الثقافي من التوظيفات السياسية، يمكن أن نتساءل: هل في جعبة بادين حلول داخلية، ورؤى خارجية لتعزيز التنوع والتعددية الثقافية؟ على أي حال إن إجابة هذا السؤال لن تستغرق وقتاً طويلاً، لنرى!