في المقال السابق تناولت موضوع المرأة والكتابة في ضوء شهادتين للكاتبة اللبنانية هدى بركات والكاتبة البحرينية فوزية رشيد. وفي هذا المقال أتناول الموضوع ذاته ولكن من خلال شهادات لكاتبات من السودان. وربما تكمن أهمية هذه الشهادات من أنها تأتي لتعكس رؤية المبدعات لتجربة الكتابة في مجتمع متعدد الثقافات والقيود أيضا، ولا نجافى الحقيقة عندما نقول أن تجارب الكتابة السودانية تعاني من التهميش، وهو ما يعنى بالأساس أن التجارب الأدبية والإبداعية للكاتبات السودانيات هي الأقل حظا ليس فقط من حظ الرجال لكن أيضا من حظوظ مثيلاتهن في المنطقة العربية سواء على مستوى النشر أو الإعلام. وكانت لفتة طيبة من مجلة الجديد أن تخصصعددها الصادر في يناير 2019 أن تتناول الابداعات النسائية السودانية في ملف بعنوان “بنت النيل: كتابات ورسوم نسوية من السودان”. وقد تضمن الملف شهادات في تجربة الكتابة لثلاثة كاتبات هن ملك الفاضل و إيمان المازرى وسوزان الكاشف.
وإذا كان ثمة سمة مشتركة في شهادات الكاتبات السودانيات فإنها ربما تكون رفضهن تصنيف الأدب على أساس الذكورة والأنوثة، فترى الكاتبات أن هذا التصنيف يبدو وكأنه امتداد للقسمة التي ترى أن وجود المرأة يرتبط بمجال خاص، وبالتالي فإن تعبيراتها الأدبية أو الإبداعية لا تتجاوز هذا الحيز الخاص وأن ما تكتبه أو تعبر عنه ليس خبرة إنسانية وإنما تجارب شخصية.
وهكذا تعبر الكاتبة ملك الفاضل في شهادتها انطلاقا من سؤال أساسي وهو: هل هناك أدب نسوي ولماذا؟ ما مدى مشروعية تصنيف الأدب على أساس جنسي أو جندري؟ وترى ملك الفاضل أن هذا السؤال مربك، لأنه يتطلب منا أن نكشف عن أصل ومغزى التصنيف ومعاييره. وترى أن هذا التصنيف يضع المرأة في مواجهة ذاتها كإمرأة تكتب لقارئ ينظر لها وينتظرها كإمرأة تكتب وليس ككاتبة، وهو ما يخلق حالة من الإرباك الذاتي “بحيث تظل تتساءل إن كان عليها أن تكون على سجيتها تكتب كما شاءت لها ملكاتها أم تلزم جانب الحذر والتوجس في كل ما تكتب”. ولذا فإنها ترى أن التصنيف الجنسى أو النوعي (الجندر) للأدب لا يفكك النظرة السائدة للمرأة، بل يكرسها، فتقول: “التصنيف النوعي في الأدب يجعل الكثيرين يتوقعون من هذه المبدعة أو تلك روايات ذات نكهة محددة ويكبلونها بفكرة أن ما تحكى عنه ليس سوى تجربتها الشخصية وقد يدفعون بها إلى الهروب إلى مجالات يقصر قلمها عن التعبير فيها كما تود”.
وتعبر الكاتبة إيمان المازري عن الموقف ذاته بلغة مختلفة، فتحدثنا عن الرقيب الداخلي الذي تستحضره الكاتبة فتحاصر تجربتها الإبداعية وتصبح ذاتا قلقة، “تُعبر عن همومها وفق ضرورة الرقيب الداخلي الذي يسكنها..”، ذاتا قلقة مثقلة بنصها المكتوب الذي تتطلع إلى قبوله “أيا كان شكله بمكونه الأساسي من دون أن ترتفع أصابع الاتهام لكاتبته وربطه بحياتها الخاصة..”. أما الكاتبة سوزان كاشف فتؤكد أن المرأة هي الأقدر على طرح قضاياها في المجتمع الذكوري، ولكنها تقول “ورغم ذلك يظل الرقيب الذاتي والمجتمعي خطرا يهدد الإبداع لدى الكاتبة عموما، ولذلك نحتاج إلى سنين كثيرة حتى ينظر المجتمع إلى الكاتبة بكل احترام وينظر إلى إبداعها بعين التقدير. فالكاتبة دائما في حالة مطاردة سواء من المجتمع أو من النقاد وفق رؤية أن كل ما تكتبه المرأة عبارة عن ثرثرة أو هو حكي عن تجاربها الخاصة..”.
وفي الواقع أن الكتابة، بغض النظر عن جنس الكاتب أو الموضوع من حيث عموميته أو خصوصية، هي تجربة ذاتية، وربما نذهب إلى القول إنها تجربة متفردة. ولكن المشكلة أن النظرة إلى كتابات المرأة قد تكون إنعكاسا للنظرة إلى جسدها فكلاهما موضوع لنظرة أخلاقية مشبعة بالتصنيف والتوقعات الجنسية والثقافية، فهي هناك في مكانها الخاص ولن نتوقع منها أن تكتب سوى عن ذاتيتها التي لا تتجاوزها. أما تجارب الرجال فإنها متحررة من سلطة التصنيف، وبالتالي فإنها غالبا ما تكون موضوعية حتى وإن كانت مغرقة في الذاتية، فذاتية موضوعية، وموضوعيته ذاتية. وأتصور أن مثل هذه الشهادات تطرح علينا السؤال الذي تم طرحه في البداية: هل هناك أدب نسوي ولماذا؟ ما مدى مشروعية تصنيف الأدب على أساس جنسي أو جندري؟