في لقاء تاريخي بين رئيسي فرنسا ومصر بالعاصمة الفرنسية باريس, تبدي الموقف علي نحو فريد فجأة وكأنه مواجهة تاريخية بين القيم الإنسانية والقيم الدينية.
في رده علي تساؤلات حول رؤية الدين بعض الأمور أكد الرئيس الفرنسي: نحن نعتبر قيمة الإنسان هي أهم من كل شيء, ولذلك حقوق الإنسان هي أهم ميثاق في الحقوق الدولية, وما من أمر أهم من كرامة الإنسان, ولذلك علينا أن نحترم بعضنا البعض.
ولم يدع الرئيس الفرنسي فرصة لخلط المفاهيم, أو الالتباس بينها, بل قال بمنتهي الوضوح: نعرف أن القيم العالمية التي نملكها تؤكد أنه ما من أحد أعلي من الفرد الحر, والإنسان يحق له اختيار الديانة التي يريد الإيمان بها, ولكن إذا اعتبرنا أن القيم الدينية أعلي من قيم الإنسان فهذا يعني أننا لا نقود بلادنا وفقا لمبادئ الديمقراطية, وهذا لا يؤدي للنتيجة الفضلي للشعوب, والشأن الديني يجب ألا تكون له علاقة بالشأن السياسي.
وفي مقابله لم يترك الرئيس المصري الفرصة السانحة أمامه للضرب بشدة علي المفهوم المعاكس, والدعوة إليه, فأكد في رده علي السؤال ذاته: إن مرتبة القيم الدينية أعلي بكثير من القيم الإنسانية.
وأضاف: من حق الإنسان أن يعتنق ما يريد ويرفض ما يرفض, ولكن من المهم ونحن نعبر عن رأينا ألا ننتهك القيم الدينية, لأن القيم الدينية أعلي بكثير من القيم الإنسانية, فالأديان نزلت من قبل الخالق, وهي تسمو فوق كل المعاني والقيم, والتساوي بين القيم الإنسانية والقيم الدينية أمر يحتاج لمراجعة.
وهكذا كشفت هذه المواجهة الصريحة بين القيم الإنسانية والقيم الدينية عن غموض لمعني القيم الإنسانية في الذهنية الشرقية عموما, والذهنية الغالبة المصرية علي وجه الخصوص.
فالرئيس المصري تحدث عن القيم الإنسانية بوصفها من صنع الإنسان.. وبدا له بداهة أن القيم الدينية من صنع اللـه لابد وأن تعلو القيم الإنسانية التي هي من صنع الإنسان.
لكن الحقيقة أن الرئيس الفرنسي لم يتحدث عن القيم بوصفها من صنع أحد, وطرح القيم الإنسانية ليس بوصفها من صنع الإنسان, ولكن بوصفها القيم التي تحفظ كرامة الإنسان.. وشتان الفارق بين أن تكون القيم من صنع الإنسان, وبين أن تنتصر القيم لكرامة الإنسان!!
وهكذا تتبدي المفاهيم الأساسية كحجر عثرة ثقيل, يعوق الإدراك السليم لمعني القيم علي النحو الشائع في الفهم المصري والشرقي بعامة.. ويتلبس جوهر الإشكال في التعريف الأصلي للقيم الإنسانية, وهل هي ما يصنعه الإنسان؟ أم هي ما يحفظ للإنسان كرامته؟.
الحق أن من يتتبع المصطلح في الذهنية المصرية الغالبة, وفي التراث الديني السائد, يقف علي دونية القيم الإنسانية, لسبب اليقين المطلق أنها ما يصنعه الإنسان!!.. فيلزم إنكارها ودحضها, حتي لو استهدفت صون الكرامة الإنسانية, وحماية الكيان الإنساني من سلب الإنسانية لحساب الزعم بما هو القيم الدينية!!
إن الأصل في القيم الدينية أنها نابعة من الأديان, والأديان في جوهرها من المفترض أنها ثورات إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته.. فإذا عاندت القيم الدينية هذا الجوهر, ولم تنتصر لشرف الإنسان وسعادته -أي إنسان وكل إنسان- فإنها تخسر علتها وتفقد انتسابها لمصدرها الإلهي..
فاللـه الذي خلق البشر باختلاف جنسياتهم وانتماءاتهم ودياناتهم يستحيل عليه -جل جلاله- أن يصدر قيما دينية لفريق من البشر تمنحه إنسانيته وحده علي حساب سلبها وسحقها لما عداه من فرق بشرية إنسانية أخري خلقها اللـه -عز وجل- أيضا, ومنحها الحق في الحرية والحياة والإنسانية النبيلة.
وإذا عبر البعض عن قلقه تجاه القيم المصنوعة بيد الإنسان ضد سعادة الإنسان وشرفه, فإن تلك لا تحتسب قيما إنسانية مطلقا, بل هي ضد الطبيعة وضد الحياة.. فالإجهاض, والمثلية, والقتل, وسلب الحرية, والاستعباد, والتفرقة العنصرية, والدنس, والغش, والظلم, والحسد, والشر, هي قيم تختصم كرامة الإنسان.. والمقصود بالقيم الإنسانية فقط التي تحفظ كرامة الإنسان وليست المصنوعة بيد الإنسان.
العلاقة الجدلية إذن بين القيم الدينية والقيم الإنسانية لابد وأن تجعل من الأولي توكيدا للثانية, واحتفاء بها أو انتصارا لأجلها.. فإذا تصادمت معها تفقد علتها ونسبها للخالق عز وجل.
فأي قيم دينية لا تحقق إنسانية البشر أجمعين علي قدم المساواة هي بالضرورة قيم دخيلة علي المشيئة الإلهية ومصادمة لها..
وعلي مستوي الدولة.. إذا ما اعتنقت الدولة دينا معينا -وهو ما هو ضد كيانية الدولة ذاتها, وضد وجودها كحارس لكرامة كل إنسان علي أرضها- أقول إن الدولة عندئذ تنتصر فقط للقيم الدينية, للدين الذي تعتنقه, أي الذي ترفعه دينا للأغلبية تسود أحكامه كل أشكال الحياة في المجتمع.. وذلك يفسر علي نحو صريح ما قال به الرئيس الفرنسي: إذا اعتبرنا أن القيم الدينية أعلي من قيم الإنسان فهذا يعني أننا لا نقود بلادنا وفقا لمبادئ الديمقراطية (أي مبادئ الحرية والمساواة وسيادة القانون والمؤسساتية), وهذا لا يؤدي للنتيجة الفضلي للشعوب, لأنه سيجعل من الشأن السياسي (أي تسيير حياة الناس للأفضل والأنجح والأرفع) شأنا دينيا, لا يحقق سوي كرامة الذين يعلون بالمجتمع والدولة قيم دينهم علي القيم الإنسانية, وهي القيم التي تحفظ كرامة الإنسان دون تفرقة -كما أسلفنا- وليست القيم من صنع الإنسان.
والحق أن الذين يرون علو وأولوية قيم دينهم علي قيم, مبادئ ومواثيق حقوق الإنسان الدولية يتجاهلون أن هذه القيم ليس مصدرها الإنسان, بل مصدرها رؤية متعادلة ومنصفة وحقانية لمبادئ اللـه.. أي مصدرها الرئيسي هو مشيئة اللـه -جل جلاله- التي صاغت الدين ومنحته للبشر.
فالحق في الحياة..
والحق في الصحة والتعليم والعدالة..
والحق المتساوي لكل البشر أمام القانون..
والمساواة المطلقة للبشر مهما اختلف الدين واللون والجنس والسن والعقيدة..
هي قيم إلهية أسبق من أي قيم انتقائية لدين يدين بها أتباع الدين..
في البدء خلق اللـه الإنسان, حيث لم يكن ألوان أو أجناس أو اختلافات أو تفرقة.. ذكرا وأنثي خلقهم فكانت المرأة معينا للرجل نظيره, أي مساوية له..
خلق الإنسان علي مبادئ الفطرة السليمة للحق والخير والعدل والحرية..
قيم اللـه الخالدة لأبناء اللـه من صنعه, ولما زاد الشر في العالم, منح اللـه الإنسان دينا أراد به أن يقنن بعض مبادئ جوهرية ضاعت في الطريق إلي اللـه.. وجعل غاية الدين الحقيقية هي القيم الإنسانية ذاتها..
فالوجود الإنساني وقيم الإنسانية الخالدة التي بثها اللـه في حياة البشر أسبق من الدين الحصري لفئة معينة ومبادئه الجزئية لمن يؤمن به..
وصار المأزق الوجودي لأصحاب الدين أنهم لا يرون سوي مبادئ دينهم, هي المبادئ التي يتعين أن تسود, رغم الحيود الذي قد يسوق فيه البشر هذه المبادئ ليسودوا بها متي ملكوا القوة, ظنا بأن المبادئ الدينية تعلو مبادئ اللـه الإنسانية التي أودعها البشر لأجل شرف الإنسان وسعادته..
في المبادئ الدينية الحصرية قد يباح قتل الأغيار لأنهم أغيار.. فإذا علت في الدولة القيم الدينية فوق القيم الإنسانية المستخلصة من مبادئ اللـه, التي بالتعريف ذاته تستهدف شرف الإنسان وسعادته, وليست التي من صنع الإنسان صار القتل عملا مباركا في الدولة غير مستوجب الحكم أو القصاص.. وينتهي الأمر بإخفاق هائل للقيم الدينية, لأن الأمان المجتمعي والسلم الاجتماعي يسقطان عندئذ صريعين تحت سنابك القيم الدينية.
الحق أن رسالة السماء إذا كانت في جوهرها هي ثورة إنسانية استهدفت شرف الإنسان وسعادته, فشرف الإنسان وسعادته هما معا جوهر القيم الإنسانية, كما هما معا يتعين أن يكونا جوهر القيم الدينية.. وهنا ينبغي أن تتحد القيم جميعا في تحقيق الشرف الإنساني وسعادة البشر.
إن القيم الإنسانية هي الغاية النهائية للقيم الدينية, ذلك أن القيم الدينية لم يأت بها الدين إلا ليحقق القيم الإنسانية التي تتحقق فيها وبها كرامة الإنسان وسعادته, وأي قيم مهما كانت دينية تنتقص من كرامة كل البشر وسعادتهم جميعهم علي قدم المساواة تتصادم تصادما جوهريا مع إرادة السماء.
خلق الإنسان علي مبادئ الفطرة السليمة للحق والخير والعدل والحرية..