الحدث الأساسي في تاريخ البشرية هو التجسد, صار بمشيئة الأب وبول الإبن وعمل الروح القدس. ما كان ممكنا أن لا يكون التجسد الإلهي, لأن البشرية سقطت وسقطت بعنف يوم تغرب الإنسان عن الخالق بحريته التي خلقه الله عليها. فميلاد الرب يسوع هو أساس الكون الجديد, أساس الحياة المسيحية, أساس الحياة كلها… أساس تعرفنا بالإله, بحضوره معنا وتجسده فينا, في أحشائنا, في كياننا, في قلبنا, في داخلنا, في عقلنا في ذهننا, في روحنا… هكذا يبدأ الخصب الروحي لنخرج من عقمنا, إذ نقبل البشارة ونتفتح حتي نقبل الحبل والميلاد البتولي.
العذراء مريم تعتبر نموذج ومثل أعلي للقداسة تتقدمنا في طريق الحياة في الله مرشده وقائده, مرشدة ومحامية, وهي أمنا وشفيعتنا الحارة لدي المخلص, تعلمنا كيف يجب أن نحب إبنها وإلهها ليكون لنا نصيب معه في ملكوته. وتعترف الكنيسة بأن العذراء والدة الإله, هي الإنسان الوحيد في كل خليقة الله, الذي وصل إلي كمال الهدف, الذي من أجله وجدت الخليقة. لأن حلول ابن الله داخلها, لم يكن فقط شكلا من أشكال التوافق بين الإرادة الإنسانية والإرادة الإلهية, بل هو حدث فريد ووحيد لترافق الحياة المخلوقة مع الحياة الإلهية في كيان واحد. لقد استحقت العذراء القديسة مريم أن تصبح مسكنا للنور والبهاء الإلهي, فالله الكلمة عندما كون لنفسه جسدا داخلها, صار جزء منها, لأنه سكن في أحشاءها.
هكذا فإن كل إنسان يستطيع أن يجد في شخص العذراء والدة الإله, الطريق إلي الحياة الحقيقية. فهي السماء الثانية المشتملة بالأنوار, الملكة الحقيقية, ومعمل الاتحاد غير المفترق, هي الزهرة النيرة غير المتغيرة, معدن الطهر والسجود والبركات, العنبر المختار, والشفيعة الأمينة لجنس البشرية. إنها الأرض الصالحة, وفردوس عدم الفساد الدائم الازدهار, كما يدعوها غريغوريوس العجائبي, والتي غرست فيه الشجرة التي تعطي الحياة, والتي تأتي بكل ثمار الخلود هي ثوب النور ومسكن الفضيلة , هي الينبوع الدئم الفيضان الذي جاء منه ماء الحياة. إنها مثال البر, وكل من يحبها ويتأثر بطهارتها وبتوليتها سينال نعمة كالملائكة. هي صاحبة الذهن الأبيض من الثلج, والجسد الأنقي من الذهب, والاحشاء المقدسة العفيفة, الأكثر قداسة من الجميع, والأكثر طهارة وتقوي من الكل.
إن الاختيار الإلهي للعذراء القديسة مريم لتكون والدة هدفه الحقيقي والأساسي هو خلاص جنس البشر وتقديسه في المسيح يسوع. هذا الإختيار بدا واضحا من خلال النبوات, وخاصة نبوة إشعياء النبي القاتلة: ها العذراء تحبل وتلد إبنا وتدعو اسمه عمانوئيل. (إش7:14). لكن إختيرها لتكون خادمة سر التدبير الإلهي, كان يتطلب المشاركة الإيجابية من جانبها. لذلك كان رد العذراء القديسة مريم علي بشارة الملاك بعد أن سألته كيف يكون لي لست أعرف رجلا, هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك, وهذا إعلان صريح وواضح بقبول الدعوة.
أوضح القديس غريغوريوس اللاهوتي [بأن لحظة قبول العذراء القديسة مريم للدعوة الإلهية, ثم الحبل بالكلمة المتجسد, إنما يمثل العطية الثانبة (عطية الحياة الحقيقية) من الله للإنسان]. إذا الخضوع التام للإرادة الإلهية, وقبولها لعمل نعمة الله, لأن تكون خادمة سر التدبير الإلهي, هو الذي جعلها مستحقة أن تمتلئ بالمجد الإلهي, ويكون لها مكانة متميزة في الكنيسة, وتحتل مكانة فائقة في الكتاب المقدس وفي تعاليم الآباء, ولا يعادلها مكانة أخري.
لأن قبولها للنعمة الإلهية, وخضوعها للإرادة الإلهية, ونقاوتها, وإيمانها, وفضائلها الكثيرة, هي من الأمور التي أهلتها لتكون مسكنا للنور الإلهي, أي التي جعلتها مستحقة أن يأخذ منها كلمة الله الأزلي, جسدا, وأن تلده وتبقي عذراء. كذا يقول القديس كيرلس الإسكندراني: [لقد ولد من العذراء القديسة مريم التي بقيت عذراء حتي بعد الولادة, وحسبت بين الأمهات بدون سقوط من بهاء البتولية].
هذا السر تصفه ثيؤطوكية يوم الأحد بأنه: [سر عجيب, ومعجز, ومرتفع, لأن كلمة الأب صار مع البشر]. لذلك تخاطبها التسبحة قائلة: [يليق بك أن يدعي اسمك القسط الذهب الذي المن مخفي فيه, فذاك وضع في القبة شهادة لبني إسرائيل, من أجل الخيرات التي صنعها معهم الرب الإله في برية سيناء. وأنت أيضا يامريم حملت في بطنك, المن العقلي الذي أتي من الأب وولدتيه بغير دنس, وأعطانا جسده ودمه الكريم فحيينا إلي الأبد].
وهكذا فإن ولادة يسوع المسيح في ملء الزمان, تمثل مرحلة فارقة في تريخ الإنسانية. لأنها عبرت بالبشر من الظلام إلي النور, ومن الجهل إلي معرفة الله. وبهذا تكون البشرية كافة قد وصلت إلي مرحلة النضج الديني التي تتوق إليه, والتي تحمل ملامح وسمات محددة ومميزة, هذه السمات التي تجلت في الدالة التي صارت لنا أمام الله, وأيضا في الحرية الروحية التي صارت ملكا لكل المؤمنين.
هكذا ترنم القديس يوحنا ذهبي الفم بكلمات مملوءة بالدهشة, قائلا [قديم الأيام صار طفلا, الذي يجلس علي العرش العالي بعظمة وجلال, يوضع في مذود لا يقترب منه, غير الجسدي, قمط بأيدي إنسانية, الذي يفك ربط الخطيةلف بلفائف, لأن هذههي إرادته, لأنه أراد للهوان أن يتحول إلي كرامة, وللعار يكسي بالمجد, وللعبودية أن تتحول إلي حرية. لذلك أخذ جسدي لكي أسع الكلمة في داخلي. ومادام قد أخذ جسدي أعطاني روحه حتي يقدم لي كنز الحياة الأبدية. يأخذ حسدي لكي يقدسني, ويعطيني روحه لكي يخلصني].
لقد حل السلام, وعمت المسرة كل أرجاء المسكونة ابتهاجا بمولود المذود, لأنه حيث يظهر الله في الجسد, لابد أن يبتهج الأرض وكل ساكنيها, وحيثما يكون الرب, تكون أيام صالحة وحياة أبدية لا نهاية لها. هكذا صار لكل أحد أن يطلب السلام الحقيقي ويجد في أثره. وقد عبر القديس أغسطينوس عن هذا الميلاد العجيب بحسب الجسد والولادة من الأب قبل كل الدهور, بهذه الكلمات [المسيح ولد من أبيه كإله, ومن أمه كإنسان, من خلود أبيه, ومن عذراوية أمه, ومن أبيه بدون أم ومن أمه بدون أب, ومن أبيه بدون حدود زمنية, ومن أمه بدون زرع بشر, من أبيه كمصدر للحياة, ومن أمه كنهاية للموت, من أبيه ضابطا لكل الأيام, ومن أمه مقدسا هذا اليوم الذي ولد فيه].
حقا لقد أشرق الحق من الأرض ليسود السلام كل الأرض, وتمتلئ نفوس البشر بالمسرة