يوحنا لم يتأذ من فساد جيله, بل علي العكس كان بركة لجيله وسبب هداية وتوبة…
ومن عظمة يوحنا أنه كان ابن الجبال, كان رجل برية, ورجل زهد ونسك. وكل ذلك ترك أثره في حياته.
وفي صفاته طارده الموت من صغره, عندما قتل هيرودس الأطفال. فأخذوه إلي البرية. وعاش في البراري طوال عمره ينمو ويتقوي بالروح (1:80). عاش ناسكا خمرا ومسكرا لا يشرب (لو 1:15). يلبس وبر الإبل, ومنطقة من جلد علي حقويه. ويأكل جرادا وعسلا بريا (مر 1:6). هكذا تدرب في البرية علي حياة الزهد. وصدق مار إسحق حينما قال إن مجرد نظر القفر يميت من القلب الحركات العالمية.
وفي البرية تعلم الصلاة والتأمل, وتعلم الشجاعة والصلابة, وتعلم الإيمان أيضا.
أعده الله في مدرسة البرية, كما أعد العذراء في الهيكل فنشأ شجاعا لا يهاب إنسانا, يصلح أن يكون صاحب رسالة, وكانت رسالته هي إعداد الناس للتوبة.
ومن عظمة يوحنا المعمدان, أنه كان شجاعا جريئا, يقول الحق بكل قوة, مهما كانت النتائج. حقا أن الزاهد لا يخاف.
أخطأ هيرودس الملك. فمن كان يجرؤ أن يوبخه أو يواجهه بكلمة الحق؟ من الذي يعلق الجرس في عنق القط؟ ليس غير يوحنا المعمدان. هو الوحيد الذي استطاع أن يقول لهيرودس لا يحل لك…..
ألقاه هيرودس في السجن فلم يهتم. إنما يخاف السجن إنسان يحب متع العالم وملاذه ويخشي أن يحرمه السجن منها. أما إنسان ناسك كيوحنا, زهد كل ملاذ العالم, وتركها بإرادته, ففي أي شيء يتعبه السجن؟!
ربما يقال له: ستتعطل خدمتك بالسجن. ولاترشد ولا تعمد, ولا تهدي الناس إلي التوبة. أما يوحنا فلا يهتم ولا يقول, إن كان هذا الباب مفتوحا من الله, فلا يستطيع أحد أن يغلقه.
إن كان الله يريد يوحنا أن يبشر فسيبشر, ولا يستطيع أحد في الوجود أن يمنعه. وإن كان الله لا يريد, فلتكن مشيئته.
بهذا المنطق كان يوحنا يشهد للحق. وليحدث بعد ذلك ما يكون.
وكان ما كان, وقطعت رأس يوحنا, ولكن هذا الصوت الصارخ في البرية ظل يدوي في أذن هيرودس يزعج ضميره وأفكاره ونومه وصحوه, ويقول له في كل وقت لا يحل لك.
إن صوت يوحنا لم يمت بموته. بل ظل مدويا ضد أعداء الحق… وظل هيرودس يخاف يوحنا حتي بعد موته…
فعندما أحس هيرودس بكرازة المسيح القوية وبمعجزاته, قال لغلمانه: هذا هو يوحنا المعمدان قد قام من الأموات, ولذلك تعمل به القوات!! (متي 14:2).
إن يوحنا قد عامل هيرودس الملك كما عامل باقي الناس. كان يدعو الكل إلي التوبة, سواء في ذلك الملك أم الجند من القادة أم أفراد الشعب… الكل سواء أمام شريعة الله. الكل في حاجة إلي التوبة. الملك محتاج إلي من يوبخه علي خطيته, كما يحتاج الفرد العادي… لكي يتوب. وإن لم يتب الملك, فيكفي يوحنا أنه شهد للحق وأنه نادي بالتوبة.
كانت معموديته هي معمودية التوبة, ورسالته هي دعوة للتوبة. ينادي في الناس توبوا فقد اقترب ملكوت السموات (متي 3:2). وكان شديدا في دعوته, يوبخ وينتهر ويبكت. وكان الناس يقبلون تبكيته بقلب مفتوح. ونجح يوحنا في خدمته. خرج إليه أورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالأردن. واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم (متي 3:6).
ولما رأي الجموع قد كثرت حوله, حول أنظارهم منه إلي المسيح. بذل كل جهده لكي يختفي هو, ويظهر المسيح. ولعل هذه هي أبرز فضائل يوحنا وأقدس أعماله…
كان يقول لهم أنا أعمدكم بماء للتوبة. ولكن الذي يأتي بعدي… سيعمدكم بالروح القدس ونار (متي 3:11).
أنا عمدتكم بالماء, وأما هو سيعمدكم بالروح القدس (مر 1:8). وكما كان يجذبهم إلي معمودية أخري أفضل من معموديته, كان يجذبهم بالأكثر إلي صاحب تلك المعمودية, الذي هو أقوي منه وأعلي وأقدم.
كان ينادي في الناس يأتي بعدي من هو أقوي مني, الذي لست أنا أهلا أن أنحني وأحل سيور حذائه (مر 1:7) يأتي بعدي رجل صار قدامي, لأنه كان قبلي (يو1: 30). لست أنا المسيح, بل إني مرسل أمامه, (يو 3:28).
لم يكن تفكير يوحنا منحصرا في ذاته, وإنما في المسيح. لم يكن يبحث عن مجد ذاته, وإنما ملكوت المسيح.
كان يدك تماما أنه ليس هو النور وإنما ليشهد للنور (يو 1:8) إذن فهو مجرد إنسان جاء للشهادة, ليشهد للنور, ليؤمن الكل بواسطته.
كان يعرف أنه مجرد سابق أمام موكب الملك الآتي, كل عمله أن يعد الطريق للمك. واستطاع يوحنا أن يحفظ طقسه ولا يتجاوز حدوده…
كانت الذاتية ميتة عند يوحنا. لم يكن لذاته وجود في خدمته. كان المسيح بالنسبة إليه هو الكل في الكل. ليته يكون درسا للخدام الذين يبنون ذواتهم علي حساب الخدمة, و يتخذون الخدمة مجرد مجال لإظهار ذواتهم!!
أروع كلمة تعبر عن خدمة يوحنا في قوله عن المسيح ينبغي أن ذلك يزيد وإني أنا أنقص (يو2:20). هذه العبارة هي سر نجاح خدمته, وهي المبدأ الذي سار عليه في كل خدمته… لذلك عندما بدأت كرازة المسيح وأخذت تكتسح خدمة يوحنا, ابتهج يوحنا وفرح. وقال اذن فرحي هذا قد كمل من له العروس فهو العريس… الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع…. الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية والذي لا يؤمن بالابن لن يري حياة بل يمكث عليه غضب الله (يو3:26).
حالما تقابل يوحنا مع المسيح قال له تفضل هذه العروس إنها لك أنا تسلمتها لمجرد أن أوصلها لك. حقا إنه من واجبي أو أوصلها لك نظيفة ومزينة, وأنادي لها أولا بالتوبة.. وأقول لها: أيتها العروس. هوذا العريس مقبل, فاستعدي للقائه.
علي أن أعظم ما في حياة يوحنا هو عماده للمسيح. وفي العماد نري موقفين عظيمين في الاتضاع, للرب ويوحنا.
يوحنا يقول للرب أنا محتاج أن أعتمد منك… أنا أيضا خاطئ أحتاج إلي معمودية التوبة معترفا بخطاياي, كهؤلاء الباقين.. وأنا محتاج أن أعتمد منك أنت… إنني أمام الناس معلم, أما أمامك أنت, فأنا تلميذ بسيط.
أمام الناس أنا نبي وملاك, ولكن أمامك أنا عبد وتراب.
هم يعتمدون مني, وأنا أعتمد منك. حقا إنني من سبط لاوي ومن بني هارون. كاهن ابن كاهن, وأنت حسب الجسد من سبط يهوذا وليس من سبط الكهنوت. ولكنني لا أنسي أنك مصدر كل سلطة كهنوتية, أنت معطي الكهنوت ومنشؤه, أنت كاهن إلي الأبد علي طقس ملكي صادق كما تنبأ داود في المزمور (مز110:4) لذلك أنا محتاج أن أعتمد منك.
إن كل العظمة التي كانت تحيط به, لم تنسه ضآلة ذاته التي شعر بها أمام المسيح…. وكأنه يقول: من أنا حتي أعمد المسيح؟! كما قالت أمه من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي.. أنا مجرد تراب ورماد, كيف أضع يدي علي رأس الرب, خالق هذه اليد؟!
إن كل الآلاف يأتون إليه, لم ينسوه حقيقه نفسه. وكل التوبيخات التي يوبخ بها الناس الخطاة, لم تنسه توبيخا يوجهه إلي ذاته, كشخص ـ أمام الله ـ يشعر أنه خاطئ… وهكذا قال للرب أنا محتاج أن أعتمد منك. وكانت هذه العبارة تحمل اعترافا ضمنيا.
نلاحظ أن الرب لم يقل له كلا, إنك غير محتاج للعماد بل قال له اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر (متي 2:15). حينئذ سمح له!!
ونحن نقف منذهلين أمام عبارة اسمح الآن وهي تخرج من فم الرب موجهة إلي واحد من عبيده. إنه تعبير مؤدب ولطيف, ليتنا نأخذه تدريبا روحيا لنا… يقول لعبده اسمح الآن أنا أحتاج إلي سماح منك, أطلب موافقتك.. لست آمرك, وإنما اسمح. ويقول حينئذ سمح له. ما أعجب هذا. أي شرح لي سيفقد هذا الموقف قوته. لذلك سأصمت عنه…
إنه درس في الاتضاع وآداب الحديث, يقدمه لنا عماد المسيح, لنتعلم ونتدرب.