اختبار الجائحة, وضع الجميع علي المحك, مع من عاشوا يظنون أنهم الأقرب إليهم وإذا بهم يصطدمون بالوحدة, والاحتياج, والتخلي, حتي من الأبناء, وقت الجائحة, عن الغياب, عن هشاشة الحب وزيفه, عن الكلام الذي لا يسوي قيمة الشهيق المصاحب له, فيظل مجرد حروف في الشتات, لا تستحق أن تعيرها انتباها, عن الوجوه الكثيرة التي انكشفت مع طول مدة الوباء, نعم كشف كورونا معادن الناس حولنا, كشف عقوق الأبناء, وضعف الآباء وتخلي الأصدقاء, وخيانة الأحباء, وتوازنات المكسب والخسارة, ,انتهازية تجار الحياة والموت عبر عقاقير الشفاء.
كورونا كشف المتشدقين بالتضحيات, والحب المجاني, نزع الغطاء عن المقايضات الضمنية في علاقاتنا اليومية, وأزاح الستار عن البطولات المزعومة, والنفوس الموبوءة بالرغبة في الظهور, والبحث عن دور, لري العطش المزمن للتقدير المفقود , وترك الكل عراة وسط الراصدين. وكشف المرعوبين من الموت, والعائدين إلينا من رحلة الموت, الكل تحت مجهر الموت, لكن للأسف الجائحة لم تغير أحدا.
كثيرة هي الحكايات, وعميقة الفلسفة فيها, اخترنا منها حينما نشرنا الجزء الأول حاملا ذات المقدمة, حكاية عم حكيم الرجل المسن الذي تركه أولاده يواجه كورونا منفردا, واليوم ننشر حكاية جديدة تحمل ذات المعاني الموجعة التي كتبنا عنها منذ ما يقرب من عام في الموجة الأولي من الجائحة, حكاية واحدة لأم وحيدة أرملة حزينة.
إنها ماجدة أرملة في نهاية الأربعينات من عمرها لديها أربعة أبناء أكبرهم 23 سنة, وأصغرهم سبع سنوات, ليس لديها مورد رزق ولا معاش فقد كان زوجها أرزقيا علي باب الله, ابنها الأكبر يعمل سائق توكتوك والصغار في مراحل التعليم المختلفة.. جميلة الوجه تعاني من المطامح وما العجب فالوحدة وارتداء السواد ومد اليد لطلب المساعدة أمور تدفع ضعاف النفوس أحيانا للطمع في الأرملة, لكن الأيام تمضي علي أي حال وتخفي ماجدة معاناتها من الأطماع والنفوس الضعيفة, فلديها أربعة رجال صغار تحرص علي عدم الزج بهم في معارك لن تفضي إلا سوء السمعة, فالمرأة في مجتمعنا تدفع الثمن حتي لو كانت ضحية كل هذه المعاناة لم تكتف الأقدار بها فابتلتهم بالوباء.
في منتصف الليل قبل أيام, اتصلت بي ماجدة تصرخ, ابنها لا يستطيع التنفس, طريح الفراش, ذهبت للطبيب ووجهها للمستشفي. توجهت الأم لكنها لم تجد مكانا يأوي ولدها, طافت علي المشافي القريبة والبعيدة, لا يوجد مكان فارغ في العناية المركزة, حاولنا إيجاد مكان دون جدوي.
عجزت عن مساعدتها فاضطررت للكتابة علي موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك, إن هناك طفلا معرضا للخطر لكننا لم نجد مكانا له. لم أكن أعلم أن الشاب الكبير عائل الأسرة هو المصاب, وفي اليوم التالي تواصلت معي مسئولة من وزارة الصحة لمعرفة ظروف الحالة, وكانت ماجدة قد وجدت مكانا لولدها في مستشفي الدمرداش, قالوا لها: إنه غير مصاب كورونا. لكنها أصابة أخري في رئتيه!!!
ماجدة لم تتلق أي درجة من العلم ولم تعرف كيف تصل لحقيقة مرض ابنها, ولم تعرف كيف تحصل علي حقها في تسجيل إصابته بالوباء لتلقي العلاج المجاني كما هو متعارف عليه دوليا في أزمنة الأوبئة, كل ما تعرفه هو أنها تريد استعادة ابنها, إنه رجلها الذي زفته الأيام لها, رجلها وعوضها القادم من رحمها ليعول إخوته, تدعو الله في كل يوم أن يهزم الوباء في جسده, فليس لها سواه. الرعب يتملكها هل تفقده مثلما فقدت والده من قبل؟ هل تفقد الأحباء واحدا تلو الآخر لتحيا مع القهر؟ رعب الفقد يمقزها, لكنها مازالت تحيا علي أمل تعافيه, وسلامة أخوته, فإن حصدهم الوباء لمن تحيا؟
ماجدة وغيرها ممن تعرضت أسرهم للإصابة, ليس لديهم المال الكافي لشراء الأدوية ولا الطواف علي المستشفيات الخاصة التي أخرجت أنيابها لتنهش جيوب وأموال المرضي, في انتهازية غير مسبوقة, فمن يستطيع أن يرعي فقراء الشعب, ويتحمل مسئوليته في توفير الحاجات الأساسية في أزمنة الأوبئة, والبديل ظهور تجار الضيقة, الذين يستغلون استعداد الأم والأب لأية تضحية مقابل إنقاذ أبنائهم, فظهرت إيصالات الأمانة المكتوبة علي بياض, ومقايضات الجيران, وبشر لهم ذمم تتسع لتمرير مساومات في حجم الفيل وأرواح تضيق فتضن بعطاء في حجم النملة, إنه الواقع المرعب للنفوس, الذي كشفه فيروس أصغر من أن تراه العين المجردة.