بقلم المتنيح طيب الذكر مثلث الرحمات قداسة: البابا شنودة الثالث
إن الذي يمعن النظر في قصة الميلاد, يجد نفسه أمام تأملات كثيرة. لعل في مقدمتها أن الله, في كل عصر من العصور مهما كانت مظلمة, لا يترك نفسه بلا شاهد (أ ع 14: 17).
لقد أحيط ميلاد الرب بمجموعة من القديسين علي الرغم من أنه كان عصرا مظلما
كان عصرا مظلما حقا, لذلك قيل عن مجيء المسيح فيه النور أضاء في الظلمة. والظلمة لم تدركه (يو1 :5). والسيد المسيح نفسه قال عن الجيل الذي عاش فيه جيل فاسق وشرير يطلب أية, ولا تعطي له (مت 12: 39, مت 16: 4). وكرر مثل هذا الكلام في مناسبة أخري (مر8: 38).
ولما تكلم عن المعلمين الذين أرشدوا الناس قبل مجيئه, قال عنهم كل الذين أتوا قبلي, هم سراق ولصوص (يو10: 8).
وظهور قديسين في ذلك العصر الخاطئ, يعطي رجاء.
إن فساد العصر لا يمنع أن روح الله يعمل ووجود الأرض الخربة الخاوية المعمورة بالماء والظلمة, لا يمنع أن روح الله يرف علي وجه المياه (تك1:2). في كل جيل يستحق طوفانا ليغرقه, لابد من وجود نوح ليشهد للرب فيه, فالله لا يترك نفسه بلا شاهد وهكذا كان العصر الذي ولد فيه المسيح.
رأينا مجموعة كبيرة من القديسين عاصرت الميلاد.
نذكر من بين هؤلا, القديس زكريا الكاهن, الذي ظهر له ملاك وهو يبخر عند المذبح (لو1:11). وزوجته القديسة أليصابات وقد قيل عنه وعن زوجته:
وكانا كلاهما بارين أمام الله… (لو1:6).
وقيل عنهما ذلك أنهما كانا ساكنين في جميع وصايا الرب وأحكامه, بلا لوم (لو1: 6). إن الفساد السائد في ذلك العصر, لم يكن عقبة تمنع وجود هؤلاء الأبرار فيه.
وإلي جوارهما, وجد يوسف النجار وسمعان الشيخ…
وقال الكتاب عن يوسف النجار إنه كان رجلا بارا (مت 1:19). وسمعان الشيخ شهد له الكتاب بأنه كان برا تقيا, ينتظر تعزية إسرائيل, والروح القدس كان عليه (لو 2:25) إنه أمر يجلب الرجاء والتعزية أن نسمع أنه في جيل فاسق وشرير, أمكن وجود رجل بار, عليه روح الله, وأنه أوحي إليه بالروح القدس… وأنه أتي بالروح إلي الهيكل (لو 2:26, 27).
جيل فاسد, ولكن الروح القدس يعمل فيه.
ونتيجة لعمل الروح وجد هؤلاء الأبرار.. وكان الروح يكلمهم… وكان الملائكة يظهرون لهم, وكانت لهم أحلام مقدسة واستحقوا أن يروا المسيح له المجد.
وفي وسط قديسي هذا العصر, نجد قديسة, نبية هي:
حنة النبية بنت فنوئيل العابدة في الهيكل.
وكانت هذه القديسة لا تفارق الهيكل عابدة بأصوام وطلبات ليلا ونهارا (لو2 :37).
ومع هؤلاء وجدت العذراء والمعمدان.
إننا لا نيأس من فساد أي جيل, إذ رأينا أن جيلا شريرا كهذا, عاشت فيه في حياة الكمال أطهر امرأة في الوجود, هي مريم العذراء, التي استحقت أن الروح القدس يحل عليها, وقوة العلي تظللها, ويولد منها ابن الله (لو 1:35).
وكذلك في هذا الجيل الفاسق وجد يوحنا المعمدان, الذي من بطن أمه امتلأ من الروح القدس (لو 1:15) والذي وصفه الرب بأنه أعظم من ولدته النساء (مت 11:11).
كل أولئك كانوا موجودين في عصر واحد, هو وقت الميلاد بالإضافة إلي المجوس والرعاة الذين استحقوا بشارة الملائكة ورؤية المسيح.
وكان هناك قديسون آخرون وقت كرازة الرب وقيامته.
نذكر من بين هؤلاء الاثني عشر رسولا والسبعين الآخرين الذين اختارهم أيضا (لو 10:1). ويذكر بولس الرسول أكثر من خمسمائة أخ ظهر لهم السيد المسيح بعد قيامته (1 كو 15:6).. كل هؤلاء وأمثالهم كانوا الباكورة ثم شملت القداسة الكل…
وكان هؤلاء اجتمعوا معا في عصر قيل إنه فاسد أليس هذا أمرا يعطي رجاء للجميع؟.
ثم أنه مما يزيد الرجاء في القلوب حقيقة أخري مهمة وهي:
كان هؤلاء القديسون من نوعيات متعددة.
نوعيات متعددة
في إحدي المرات جاءني إنسان تائبا ليعترف بخطاياه, وبعد الاعتراف طلب مني لمنفعته الروحية أن أرشده إلي قراءة قصص بعض قديسي التوبة, فأعطيته قصص قديسين كبار مشهورين في حياة التوبة, مثل القديس موسي الأسود, القديس أوغسطينوس, القديسة بيلاجية, القديسة مريم القبطية.. ولما قرأهم وجاءني مرة أخري, سألته: هل أعجبتك القصص؟ فأجابني:
نعم أعجبتني, ولكن كلهم من نوع واحد, ترهب…
وسألني هل توجد سير لقديسين آخرين تابوا, ولكنهم عاشوا مثلنا في العالم, في مثل حياتنا, دون أن يترهبوا.. وهل كل الذين يتوبون, لابد أن ينتهوا إلي الرهبنة؟ ألا يوجد تنوع في مصير التائبين؟
ولا شك أن ذلك الشخص كان له حق في سؤاله. إنه يريد عينة تابت, وعاشت بعد التوبة حياة مقدسة في العالم مثلما يعيش هو… وفي قصة الميلاد, نري عينات متنوعة من القديسين, نذكر من بينها:
نري في قصة الميلاد قديسين مختلفين في السن.
نري إنسانا طاعنا جدا في السن مثل سمعان الشيخ, ومثل زكريا الكاهن وزوجته أليصابات وكانا كلاهما منقدمين في أيامهما (لو 1:7). وكذلك حنة النبية وهي أرملة نحو أربع وثمانين سنة (لو 2:37). ويوسف النجار أيضا كان شيخا…
وإلي جوار هؤلاء نجد السيدة العذراء مريم, وكانت في نحو الرابعة عشر من عمرها شابة صغيرة, ثم هناك يوحنا العمدان وهو طفل, وقد ارتكض بابتهاج في بطن أمه لما سمع سلام العذراء (لو 1:44). ومن بطن أمه امتلأ من الروح القدس (لو 1:15) أما الرعاة فغالبا كانوا في سن الرجولة, لا أطفالا ولا شيوخا, وقد بشرهم الملاك.