الملف الإنساني للمهاجرين في كل بقاع الأرض يزدحم بالقصص المأساوية, إلا أنني لم أجد ملفا للمهاجرين يحمل متناقضات مثل ملف تدفق موجات الهجرة من صعيد مصر إلي ليبيا, فالعمالة المصرية في الصعيد رغم كل الظروف والصراعات, ورغم استشهاد أعداد من الأقباط علي أيدي عصابات الإرهاب هناك لاتزال تفر إلي ليبيا, ما يشير بقوة إلي خلل في الواقع الصعيدي الذي يهرب منه الشباب إلي الموت المحقق باعتباره فرصة لجلب المال, هل حقا هي فرصة؟
جاءني عبده شاب من إحدي قري المنيا الحزينة, المنكوبة دائما بالبطالة بين أبناء الأقباط من الفقراء, فالجميع يعلم الواقع الطائفي هناك, وفرص العمل شبه المعدومة, ليس في المنيا فقط وإنما في معظم قري الصعيد, عبده يعمل أجيرا في الأرض, ترك الفلاحة وقرر أن يكون مشروعا للتهريب بين مجموعات تعبر الصحراء الغربية إلي ليبيا وياليته مافعل. استمعت إليه وتشرد ذهني في كيفية العبور وقال:
أخدت دبلوم الزراعة وجوزوني في الصعيد بنتجوز بدري ونعيش مع أهالينا في نفس الدار, اشتغلت فلاح في الأرض, لكن العيشة كانت ضيقة خصوصا أني خلفت تلات بنات أصغرهن عمرها سنتين, أبويا وأمي ماتوا الاثنين, وأخويا الكبير كان علي أد حاله, الحياة ضغطت علينا, مافيش لا شغل ولا فلوس, القرية إللي عايشين فيها في المنيا فقيرة جدا, قررت أعمل زي ما الناس كلها بتعمل في بلدنا, وسافرت ليبيا, لكن سافرت تهريب مش رسمي, من علي الحدود في الصحراء الغربية, واتحملت الغربة, سبت الفلاحة وطرح الأرض, ورحت هناك أشيل التراب علشان أجمع شوية جنيهات أقدر أصرف بيهم علي بناتي ومراتي.
لكن المنحوس منحوس, في يوم وأنا في السوق, حصل لي مغص رهيب, وإغماء, فجأة الزايدة انفجرت, انتقلت المستشفي, واستأصلوا جزء من القولون وفي أول عربية إسعاف عرفت تعبر الحدود جابتني بنغازي لغاية الجمرك, ومن الجمرك لغاية سمالوط, وهناك سلموني للمطرانية دخلت العناية المركزة, واستمر الحال شهور, واستمرت الكنيسة تساعدني وتصرف علي مرضي فترة طويلة, لكن حالي كله واقف, لا في شغلة ولا مشغلة, والعيد علي الأبواب والعيال محتاجين كتير, وأنا من غير شغل لا لحقت أعمل فلوس, ولا فضلت فلاح, ولا صحتي بخير.
رحل عبده وتركني أفتش في ملفات تهريب البشر من الصعيد عبر حدود الصحراء الغربية حيث تعمل المنظمة الدولية للهجرة علي عمليات البحث وإنقاذ المهاجرين, الذين يتسربون عبر الصحراء. وجدت المنظمة الدولية أن أكثر من 95 في المائة من المهاجرين يصلون إلي ليبيا عبر الصحراء من خمس دول أفريقية, مصر إحداها. وعلي امتداد نحو 1100 كيلومترات, يبقي خط الحدود الفاصل بين مصر وليبيا, ورغم النجاحات التي حققتها القوات الأمنية المصرية خلال العامين الأخيرين من تقليل نسب التهريب, سواء للبشر أو السلاح أو المخدرات, إلا أن مسارات التهريب مازالت قائمة وتنحصر في ثلاثة طرق, أولها من الجهة الشمالية بين منطقتي مساعد في ليبيا ومدينة السلوم المصرية, والثانية في المنطقة الوسطي من الحدود من واحة الجغبوب الليبية باتجاه منطقة الخارجة في الوادي الجديد في مصر, والمسار الثالث جنوب الحدود الغربية عند جبل العوينات بين مصر وليبيا والسودان.
تري ما الذي يدفع الناس للهروب إلي الموت؟ ما الذي يزين الشوك في عيونهم ليرونه ورودا ويندفعون نحو باعتباره فرصة للتنعم في أموال ملوثة بدمائهم, إنه العوز, وضيق الحال, الذي يحيط بهم في وطنهم فيقررون الهروب إلي حال أسوأ خارج الوطن, وها هو عبده مثالا حيا خرج معدما وعاد معدما, يروي قصصا مؤلمة لمصريين مازالوا في ليبيا.
استغاثة العيد
العيد قادم, العام الجديد يطرق الأبواب, الشتاء حل في القلوب قبل الأجساد. والبرد قابع داخل نفوس الغلابة منذ زمن بعيد, تنقصهم تدفئة الأمان وطمأنينة السند, حتي يرعون أسرهم مثل الجميع ويدخلون السعادة إلي قلوب ذويهم في ليالي الأعياد, ما زلنا نحاول مساعدة أولئك الذين لا يجدون من يساعدهم, نذهب إليهم حيث يكونون, في منازلهم وأماكن عيشهم, لكن الحال أضيق من ذي قبل, نحتاج لأياد أمينة معنا حتي نلحق بهم الفرحة قبل انقضاء العام الحالي وبداية 2021, أمنياتنا أن نجد من يسرع بالمعونة.