نجاة شابة وأم لثلاثة أطفال تحاول أن تعبر الشارع ممسكة باثنين منهما, بينما تحمل الثالثة علي كتفها الضعيف, تنجح في عبور الشارع بقوة الدفع والخوف والهرولة, تزج بنفسها عبر الباب الخلفي للعمارة التي يعمل زوجها حارسا لها, تدخل أسرع من لمح البصر, حتي لايطالبها أحد سكان العقار بمهمة هي غير مستعدة لها, لكنها لاتنجح فصاحب العقار له زوجة متسلطة تصرخ ليل نهار لاتعطي نجاة فرصة لرعاية أطفالها, ولا تمنحها مكافأة إضافية علي تفرغها لخدمتها, فقط تفوز الأم الصغيرة بوجبات مجانية للأطفال الثلاثة بين الحين والآخر, وفي السباق علي الطعام تظل جائعة ربما ليوم كامل, وبين الجوع والقهر سطور طويلة مكتوبة بحبر المواجع, ما بين الجوع والقهر حفرة اسمها العجز, وسنوات من الشقاء يصعب اختزالها وصراع بين النجاة والغرق في طوفان الفقر.
اختبرت نجاة العجز في أفعال وردود أفعال إسحق,إنه زوجها الذي لم يعرف عملا في حياته سوي أن يكون حارسا لعقار, وأنجب ثلاثة أطفال ولدين وبنتا, لم ينل أي قسط من التعليم ولم يتعلم أي حرفة في حياته, لم يكن لدي والديه مال ولاعلم ولاثقافة, وهكذا أصبح إسحق مجرد شخص يستخدم جسده للحصول علي قوته, إما كحارس عقار, أو منظف سيارات, غبار الشارع يغطي وجهه, وغبار الجهل يحجب الوعي عن عقله ورزق الحراسة شحيح, ولا أحد يساعد.
ضاق العيش إلي الحد الخانق, بدأت الزوجة في التذمر فالأبناء علي حافة التشرد, وقف إسحق أمام مرآة أيامه, يفكر ماذا سيصنع مع أولئك المساكين هل يفعل معهم مثلما فعل أبيه معه بعد تفكير وجد أنه سيكون مجرما في حق أطفاله إذا كرر ما فعله أبوه معه في الماضي وبالاتفاق مع زوجته قررا إيداع الأطفال الثلاثة دار أيتام, يتلقون فيها الرعاية الإنسانية والتعليمية والصحية التي يعجز والداهما عن منحها لهم.
ما أصعب هذا القرار, فالإنسان حينما يتخذ قرار استئصال جزء من جسده تراوده ألف فكرة تصيبه بالتردد, بينما لم يتردد إسحق أو زوجته في قرار تسليم أطفالهما طواعية لفراق أبدي.. نعم أنه فراق أبدي, لأن الانفصال النفسي في السنين الأولي لن يدع مجالا لاستعادة هذه المرحلة لاحقا, خطوة للأمام وأخري للخلف في مشهد تسليم الأطفال, بكاء وصراخ وواقع مأزوم يضع الأمومة علي حافة الهاوية, هل تسلم الأطفال لمستقبل يضمن لهم علي الأقل الغذاء والدواء أم تبقيهم في حضنها ليتسربوا للتشرد واحدا تلو الآخر؟ حقا في طوفان الفقر كل الأشياء قابلة للتخلي حتي الأبناء, لكن لكل طوفان سفينة نوح.
مرت السنين, وجاءني إسحق مستغيثا يطلب المساعدة قبل حلول العيد حتي يبدو كعائل أسرة ولو مرة في حياته, جاء يروي قصته التي كان حجر الزواية فيها أنه لم يجد عملا لتوفير أساسيات الحياة, ومات الأمل في استعادة الأطفال من دار الأيتام وتضخم شعور الزوجة بالتذمر وقررت الانفصال عن إسحق فطردوه من العقار الذي يحرسه التحقت نجاة بوظيفة عاملة نظافة.
واستعادت الابنة الصغري من دار الأيتام وتركت الولدين لاستكمال التعليم, وفضلت الاحتفاظ بوجود الفتاة إلي جوارها, كانت الأم هي سفينة نوح, أنقذت ابنتها من اليتم النفسي, لم تتمكن من الفعل نفسه مع الولدين لكنها لم تتخل عنهما, ولم تفكر لحظة في الرجوع لإسحق كانت تعتمد علي أهل الخير في احتياجات البنت, لكن الإيجار المتراكم أثقل كاهلها 600 جنيه شهريا بخلاف فواتير الكهرباء والغاز والمياه التي أصبحت إجراء شهريا تعجيزيا للغلابة.
وظهر الولدان في حياة والدهما مرة أخري, وأقنعا والدتهما بالعودة إليه انطلاقا من مبدأضل راجل ولاضل حيط فسفينة نوح لابد أن تتسع للجميع لكن إسحق أحدث ثقبا عظيما في قاع السفينة منذ البدء ولم يدرك ظل الحائط, ولا حتي قالب طوب واحد منه, ليكون ظلا لأنه عاطل دائم, وبعد أن كان يحيا علي المساعدات من هنا وهناك صار يحيا عالة علي زوجته التي جاءت في جلسة بمفردها تستغيث لدفع الإيجار المتراكم عليها وقيمته 600ج لمدة 4شهور, إسحق تخطي السن الذي يمكن أن يلتحق فيه بعمل يناسب قدراته المحدودة, وزوجته تتحمل ما تتحمله منذ سنوات, وابناه الأكبر التحق بالجندية والأصغر في المدرسة ويحتاجان من يقدم لهما مصروفا شهريا, فلا عمل ولاسند والابنة أصغر من أن تعمل والعيد علي الأبواب والإيجار مكسور, والبيت فارغ حتي من الطعام, والسفينة التي أغرقها الأبوان قبل سنوات في طوفان الفقر, يحاول الولدان الطفو بها فوق سطح المياه أملا في النجاة من طوفان التمزق,فهل نجد من يسد الثقب العظيم؟