يقول طه حسين: إن الأقباط مصريون يؤدون الواجبات الوطنية كاملة كما يؤديها المسلمون, ويستمتعون بالحقوق الوطنية كاملة كما يستمتع بها المسلمون, ولهم علي الدولة التي يؤدون إليها الضرائب وعلي الوطن الذي يذودون عنه, ويشاركون في العناية بمرافقه ما للمسلمين من الحق في العناية بتعليمهم وتقويمهم وتثقيفهم علي أحسن وجه وأكمله, وما نظن أن أحدا يستطيع أن ينكر ذلك أو يحادل فيه, وقد قرر الدستور المصري الذي نؤمن به جميعا أن المصريين سواء في الحقوق والواجبات, لم يفرق في هذه المساواة بين المسلمين وغير المسلمين.
ويقول حبيب جرجس: القبط ليس لهم كيان اجتماعي خاص, بل هم مندمجون في الأمة المصرية لأنهم أبناء مصر الأصليون, لهم ما للمصريين وعليهم ما عليهم. هم ليسوا أمة خاصة ولكنهم عنصر من عنصري الأمة. والواجب يقضي علي الوطن أن يعاملهم كإخوانهم في الوطنية المصرية علي السواء, بلا تمييز ولا تفريق. ويجب أن يسري عليهم ما يسري علي كل مصري, إذ لا تجد فرقا علي الإطلاق بين القبطي وبين أخيه المسلم في شيء ما, لا في دمه, ولا في شكله, ولا في لونه ولا في عاداته, ولا في طباعه وهو في اثناء تثقيفه في المدارس وفي توظفه في أية وظيفة, أو في تجارته, أو في مزرعته, أو في صناعته, أو في عائلته, وبالجملة في كل أحواله الخارجية والداخلية, كرفيقه وأخيه المصري من أي جنس ودين.
هذا لمحة بسيطة عن توافق الفكر بين قطبين ورائدين من قادة التنوير, ولقد قمت بدراسة تحليلية بين فكر كل من طه حسين وحبيب جرجس, ووجدت توافقا كبيرا جدا في عدة مجالات ويصل لحد التوافق التام في كثير من الرؤي المستقبلية لكل منهما, مثل مجالات التعليم الديني, الاهتمام بالترجمة والنشر, قضية اللغة, التوجيه والمتابعة للعملية التعليمية, أهمية التعليم للكل, فلسفة الإصلاح والتجديد, وكثير من المجالات ولكن لضيق المساحة رأيت أن أقدم إطلاله سريعة عن توافق الفكر بين هذين الرائدين.
ولقد حظي كل منهما باهتمام الباحثين والدارسين, ولدينا عشرات الدراسات والرسائل والكتب التي تناولت هذين القطبين. وكل منهما يعد ظاهرة فريدة في مسيرة تطور الفكر التربوي في مصر. وكلاهما من قادة الفكر الإنساني, حيث صنع كل منهما نهضة فكرية غير مسبوقة.
ولقد تشابه الرائدان في مجالات حياتهما, فعن طه حسين يقول دكتور كمال مغيث: قد مارس طه حسين التربية والتعليم كنشاط تطبيقي في مختلف العملية التعليمية, معلما وموجها ومؤلفا للكتب المدرسية ومستشارا لوزارة المعارف, ثم وزيرا لها.
أما حبيب جرجس فقد مارس أيضا التربية والتعليم كنشاط تطبيقي, معلما, ومفتشا, ثم مديرا للإكليريكية, ومؤلفا للكتب المدرسية, ثم مستشارا في لجنة فحص الكتب في وزارة المعارف, وعمل مستشارا لأربعة بطاركة في الكنيسة. وأيضا كان صحفيا وشاعرا.
كان لكل منهما حلم من أجل الأمة, صاغ طه حسين حلمه هذا في كتاب (مستقبل الثقافة في مصر), وهو تصور دقيق لكثير من مشاكل الثقافة في الشرق العربي, وبه خطط جريئة ونظريات متجددة. ويعتبر هذا الكتاب برنامجا متكاملا للنهوض بالثقافة في مصر.
أما حبيب جرجس فقد كان يملك نفس حلم الإصلاح, وصاغ ذلك في كتاب (الإصلاحات القبطية آمال وأحلام تتحقق في عشرة أعوام).
وهو عبارة عن برنامج يشمل أفكارا عميقة وخلاقة علي غرار كتاب طه حسين. المدهش أن في نهاية كتاب طه حسين يقول إن هذه الأفكار هي آمال وأحلام يتمني تحقيقها, وهي نفس كلمات حبيب جرجس في كتابه (الإصلاحات القبطية) إنها آمال وأحلام يتمني تحقيقها.
طه حسين في كتابه (جنة الشوك) أدخل فنا جديدا علي الآدباء في العصر الحديث, وهو أسلوب المحاورة, وهو أسلوب فلسفي قديم, حيث تتم المحاورة بين فتي طالب وأستاذه الشيخ الحالم والحكيم المختبر. وحبيب جرجس في كتابه (الإصلاحات القبطية) استخدم نفس أسلوب المحاورة, حيث يدور الكتاب علي لسان ثلاث شخصيات, الشخصية الأولي (غيور بن رعد) شخصية مندفعة, الثاني (عادل بن عارف) شخص متزن دارس, والثالث (وضاح بن رجاء) شخصية حكيمة إيجابية لها أمل في الإصلاح. وكل منهما قدم برنامجه بالمحاورة.
نادي طه حسين بضرورة العناية برجال الدين وضرورة تضافر الجهود بين الدولة والكنيسة للإعداد السليم المؤثر. وهذا نفس ما نادي به حبيب جرجس في كتابه (الإكليريكية), وما أكثر المجالات والقضايا والأفكار الكثيرة جدا المتوافقة بين الرائدين, التي رصدتها الدراسة المشار إليها, وسنلقي الضوء علي هذه المجالات والقضايا المشتركة فيما بعد لنعرف مدي التوافق بين الرائدين.