– من محطة ملكية بنيت على الطراز الفرنسي إلى محطة طبية لنقل مصابي الحروب
– من أحمد عرابي إلى عدوان 1956 إلى الاستنزاف “محطة سكة حديد الإسماعيلية”.. شاهد عيان على تاريخ نضال الشعب المصري
حينما نتكلم عن تاريخ قطارات سكك حديد مصر، فنحن نتكلم عن ملحمة تاريخية متكاملة، تأخذنا معها في رحلة مثيرة وعجيبة مليئة بالعديد من الأحداث والمواقف، فوراء محطات القطار نرى دراما تاريخية وحياة من نوع آخر هذه المحطات بأعمدتها وجدرانها وقضبانها تحكي لنا تاريخ ملوك وأباطرة وزعماء ورؤساء مروا من خلالها وكذلك جيوش العالم التي مرت عن طريقها، نتكلم عن حروب تخللتها لحظات الانتصار ولحظات أخرى بالانكسار، ثورات كانت حولها وبها فقد كانت هذه المحطات شاهدا على كل هذه الأحداث، فهي تُعد أرشيف من التاريخ لا نستطيع أن نتجاهل أي جزء منه، أمام هذه المحطات نستطيع أن نسترجع العديد من المشاهد التاريخية مثل احتفالات افتتاح قناة السويس، أو هجوم صواريخ قوات الاحتلال والتي أدت إلى احتراق قطاراتها الواقفة على رصيفها المليئة بالبشر والذين انصهروا مع القطارات، ومنها كانت البطولات الرياضية وغيرها من الأحداث التي شهدتها محطة سكة حديد الإسماعيلية.
وتُعد محطة سكة حديد الإسماعيلية والموجودة حاليًا بميدان عرابي وسط مدينة الإسماعيلية هي المحطة الرئيسية للمحافظة ولمدن القناة، أنشئت مع بداية إنشاء مدينة الإسماعيلية عام 1868، وافتتحت عام 1869 أي بعد عام واحد، وتغيرت معالمها مرتين وعمرها الآن 151 عاما.
* الخديوي إسماعيل والإمبراطورة أوجيني أول ركاب قطار الإسماعيلية:
أما عن قصة إنشاء أول محطة سكة حديد في مدن القنال وبالأخص الإسماعلية، فتبدأ القصة في عهد الخديوي إسماعيل عندما بدأت مصر دخول عصر قطارات المدن، وكانت أول مناسبة لافتتاح خط قطار الإسماعيلية- القاهرة، عندما استضاف قطار السكة الحديد الخديوي إسماعيل والإمبراطورة الفرنسية أوجيني، وهي زوجة نابليون بونابرت، وفرنسيس جوزيف إمبراطور النمسا، والأمير فردريك فيلهلم ولي عهد بروسيا، وباقي الملوك والأمراء والضيوف أثناء الحفل الذي أقامه الخديوي اسماعيل لافتتاح قناة السويس، حيث استقلوا قطار الإسماعيلية المتجه للقاهرة.
ولضرورة تطوير الاتصال بين مدن القناة الأخرى من أجل افتتاح خطوط القطارات التي ستربط بين الإسماعيلية والقاهرة والسويس، تم مد خطوط السكك الحديدية سريعًا، وأنشئت محطة السكة الحديد بالإسماعيلية في عام 1869، وأصبحت أول محطة سكة حديد، ويرجع لهذه المحطة السبب في بناء محافظة الإسماعيلية بالتزامن مع بناء وتشييد المحطة، وتم اختيار أهم ميدان وسط المدينة، وهو ميدان “الملكة نازلي” أو ميدان عرابي حاليًا ليكون بوابة العبور إلى هذه المدينة الساحرة أو كما يسميها البعض “باريس الشرق” وليكون هذا الميدان أول ما يراه الزوار عند نزولهم من محطة الإسماعيلية وآخر ما يودعوه عند مغادرتهم المدينة، وتم إنشاء 9 أبواب للمحطة في شكل هندسي على الطراز الفرنسي، وحولها مظلة ذات أعمدة حديدية مثبتة في قواعد المبنى من الجهات الأربعة، وفي عام 1891 افتتح خط الترام الذي ربط بين الإسماعيلية وبورسعيد.
ويذهب بنا عبدالرحمن الرافعي في كتابه “عصر إسماعيل”، إلى أن السبب وراء إنشاء مدينة الإسماعيلية، كان نتيجة حفر قناة السويس، مما أدى إلى الهجرات الإجبارية للفلاحين والعمال الذين يعملون في حفر القناة، لذلك ارتبطت نشأة الإسماعيلية بحفر قناة السويس، وفي نوفمبر 1869 أنشئت كمدينة – بالتزامن مع افتتاح محطة سكة حديد الإسماعيلية- لتضم إدارة شركة قناة السويس وطاقم العمل بها، وسميت على اسم الخديوي إسماعيل “حاكم مصر” آنذاك.
ويعد المهندس الفرنسي “جومارد” هو المسئول عن تخطيط مدينة الإسماعيلية، وقام بتقسيم مدينة الإسماعيلية وقتها إلى قسمين حي الأفرنج وهو مخصص لإقامة الأجانب، ويقع على شاطئ قناة السويس مباشرة ويتميز بالعمارة الفرنسية والتي ما زالت موجودة حتى الآن، وحى العرب مخصص لإقامة العرب والمصريين ويقع في عمق مدينة الإسماعيلية بعيدا عن القناة.
ونلاحظ أنه منذ إنشاء محافظة الإسماعيلية والمنشآت الخاصة صارت متعددة في الإسماعيلية، فقد أسرع التجار الأوروبيين والمصريين المنجذبين للمدن الجديدة والواعدة بالرخاء القريب في التمركز في أفضل الأماكن في المدينة فوق أراضي الامتياز “وهي الأراضي التي وضعتها الدولة لبناء قناة السويس”، ولكن لم تستغل لصالح تشغيل القناة أو في تلك الأراضي التي تم الاستغناء عنها او تم عرضها للبيع من قبل إدارة شركة قناة السويس أو من قبل الحكومة المصرية، وهكذا تكونت مخازن خاصة وافتتحت محلات وأقيمت فنادق ومقاهي مشاركة بذلك في تطور النشاط التجاري والصناعي للمدن ذات الموانئ.
وقد وصف لنا “ماريوس-اتيان فونتان” المؤرخ والصحفي وسكرتير فردينان دليسبس والذي أصبحً مديرًا إداريًا لشركة قناة السويس عام 1854، مدينة الاسماعيلية في أصالتها وعراقتها قائلًا: ((تبدو الإسماعيلية في هيئتها كمدينة أوروبية نقلت إلى الشرق، فقد اُستعار طابعها من الحضارتان –الاوروبية والشرقية-أبرز ما فيهما وأكثرهما فائدة، وأكبر برهان على ذلك هو هيئة منشآتها)).
*محطة سكك حديد الإسماعيلية شاهد على التاريخ:
شهدت محطة سكة حديد الإسماعيلية أحداث تاريخية هامة في تاريخ مصر، فقد كانت الطريق الرئيسي لسفر ونقل الامراء والملوك الى القاهرة في احتفالات افتتاح الأوبرا بالقاهرة.
ومن الأحداث التاريخية المؤلمة التي شهدت عليها محطة الاسماعلية، حينما فكر “أحمد عرابي” في غلق قناة السويس وردمها عام 1882 خوفا من احتلال بريطانيا لمصر عن طريق القناة، وهنا قام ديليسبس بإقناع احمد عرابي بعدم جدوى ردم القناة، وأبعد عن فكر أحمد عرابي دخول الإنجليز إلى مصر عبورا من القناة وأن ديليسبس سيمنع ذلك، ولكن ما حدث كان عكس ذلك بالمرة فقد جاءت السفن الحربية البريطانية عن طريق قناة السويس ومرت بها حتى وصلت إلى ميناء الإسماعيلية في بحيرة التمساح ورست السفن الحربية بجنودها وأسلحتها ونزلوا في منطقة جمرك الإسماعيلية بدون أي مقاومة تذكر، وكانت محطة قطارات الإسماعيلية هي المكان الرئيسي والسهل والمفضل لنقل جنود القوات البريطانية، حيث واجه الجيش البريطاني جيش أحمد عرابي في مدينة القصاصين والتل الكبير، وقاموا بضربه بقواتهم المجهزة بكل عتادها، مما أدى في النهاية بهزيمة جيش أحمد عرابي ومحاكمته ونفيه إلى جزيرة سيلان.
وفي عام 1914 عندما بدأت الحرب العالمية الأولى وجاءت السفن الحربية والسفن حاملة الجنود من استراليا ونيوزلندا والهند وبريطانيا وأكثر من إحدى عشر جيشًا، كانت محطات القطارات ممتلئة بالقوات التي جاءت من الدول الأوروبية ورست في ميناء الإسكندرية وبورسعيد والسويس والإسماعيلية، وكانت محطة الإسماعيلية من المحاور الرئيسية التي استقبلت الجنود والعتاد الحربى، ثم قامت هذه الجيوش باتخاذ مباني شركة قناة السويس وتحويلها إلى مستشفيات ميدانية لمعالجة جرحى الحرب وامتدت المعسكرات عبر خط القنال لمجابهة الجيوش العثمانية التركية أثناء الحرب العالمية الأولى، واشترك المصريين مع القوات البريطانية بإقامة خطوط السكك الحديدية عبر القناة وسيناء وإقامة الكباري والمعابر لتسهيل عبور القوات الى سيناء، وظلت هذه الجيوش على أرض القناة يحتفلون بمناسباتهم الدينية كالكريسماس مثلا وغيرها من الأعياد، وكانت الإسماعيلية ومدن القناة تموج بكل الألوان الحربية من كافة أنواع الجنود، وكانت محطة الإسماعيلية هي المعبر الرئيسي للسفر للقاهرة ونقل الجرحى من الجنود عبر القطارات الطبية المجهزة، وهي تعتبر مستشفيات متنقلة أثناء المعارك كانت تنقل الأسرى من الجيش التركي والألماني، ويمكن القول أن مصر قد مرت بسنوات صعبة أثناء الحرب العالمية الأولى.
وفي سنة 1918 بسبب أحداث ومظاهرات واحتجاجات الطلاب والموظفين ومطالبتهم بالاستقلال عن بريطانيا، احترقت محطة سكة حديد الإسماعيلية وتهدمت جدرانها، وفي عام 1919 تم إعادة بناء المحطة من جديد.
وفي أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945) كانت محطة سكة حديد الإسماعيلية الوسيلة الرئيسية لنقل القوات الاسترالية والنيوزيلاندية في الحرب .
واستمر تطور السكك الحديدية في مصر التي شكلت واحدة من أهم المؤسسات الاقتصادية في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين بسبب اعتماد البريطانيين عليها في عمليات الإمداد والتموين لقواتها سواء أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية أو فترة ما بين الحربين.
في 16 أكتوبر 1951 اندلعت مظاهرات الطلبة والفدائيين من جديد، وتم خلاله حرق مبنى النافي” وهي جمعية للمنتجات البحرية لجنود الاحتلال الإنجليزي وأسرهم، والذى كان موجودًا بمحيط محطة سكة حديد الإسماعيلية.، مما أدى إلى تأثر المحطة بالحريق وإحداث بعض التلفيات بها، وبعد قيام ثورة 23 يوليو عام 1952 ورحيل القوات البريطانية وإجلائها عن مصر شهدت شبكة السكك الحديدية في مصر تغييرات كبيرة حيث اختفى خط سكك حديد رفح بعد الاحتلال الإسرائيلي لشبه جزيرة سيناء عام 1967، واستخدمت إسرائيل “حديد قضبان خط سكة حديد القنطرة بغزة” في بناء خط بارليف الشهير على الضفة الشرقية لقناة السويس.
كما شهدت محطة سكة حديد الإسماعيلية، عدة أحداث وتفجيرات أخرى أثناء فترة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وحرب يونيو 1967 وحرب الاستنزاف، حيث استهدف العدو الإسرائيلي أثناء الحرب مدينة الاسماعلية، واستشهد العديد من المدنيين الأبرياء، نتيجة قيام الطائرات الإسرائيلية بقصف محطة السكة االحديد
جدير بالذكر أنه كان يوجد قطار يسمى “القطار الحربي” داخل محطة قطارات الإسماعيلية لا ينقل إلا الجنود فقط، خاصة أن الاسماعيلية كانت معقل للجيش البريطاني في احتلالهم لمنطقة قناة السويس، وفي حرب 67 كانت القطارات تنقل المهاجرين إلى محافظات مصر وإخلاء منطقة قناة السويس من سكانها تفاديا لضرب المدن من العدو الإسرائيلي القابع على الضفة الشرقية لقناة السويس.
ومما سبق يمكن القول أن محطة الإسماعيلية كانت شاهد عيان على العديد من الأحداث والحروب التاريخية ومحور رئيسي للقوات المسلحة المصرية في حروبها،
وقد أصبحت هذه القطارات وسيلة المواصلات العامة الأولى في مصر خلال الربع الأول من القرن العشرين.
ولكن في عام 1996 تم هدم محطة الإسماعيلية ذات الطراز الفرنسي، بحجة تطوير المحطة وإنشاء مبنى جديد، وإقامة توسعات بالمحطة ومنها نفق عريشيه مصر، وإنشاء الكوبري الحديدي أعلى المحطة.
وأنشئ المبنى الحالي بدلا من القديم، وحاليًا هناك العديد من المقترحات بنقل المحطة إلى خارج الكتلة السكنية والاستفادة بموقعها المتميز وسط المدينة، وبذلك يسدل الستار على محطةالإسماعيلية القديمة وطرازها المعماري الفرنسي الفريد.