في كل مرة أعود مقهورة أمام تلك الورقة ، أتأملها في حنق ، أستعطفها ، تسخر مني ..أتوسل بالسماء أن تقيني شر هذه اللحظة ، أحاول انتزاعها فلا أستطيع ، أهم بتمزيقها فتتوقف يداي !أبصق عليها فلا أشم إلا رائحة العفن الصادرة من أحشائي ، أصرخ فتتوه أصدائي أمام أشلائي …
بين الشوارع المضاءة بالأنوار والمحلات المحتشدة بالدمى والحلوى كنت أتجول بعقود الفل : “كل سنة وأنت طيب يابيه ..كل سنة وأنت طيبة ياهانم ..” وكانت أمي تنتظرنى عند زاوية كل شارع تأخذ مني النقود وتعطيني لأبيع مرة أخرى ..حصلت مبلغا كبيرا تمنيت أن أحقق به حلمي ..هناك بكيت لتبتاع لي أمي عروسة تقول بابا وماما ..فصفعتني ..
تحجرت الدموع في عيني، أسرع نحوي شخص (عرفت فيما بعد أنه يدعى بابا نويل ) وقدم لي ماسر قلبي ، وعند عبور الشارع تهشمت كل الدمى تحت قدمي الحافيتين ..
احتضنت أشلاءها وحملتها إلى المنزل ، فوجدت عروستي القديمة ( المحشوة ببضع الخرق البالية ) تبكي هي الأخرى ، كانت تأمل أن يحمل لها بابا نويل فما تتكلم به …
أخذتها بين ذراعي وقلت لها : ” أنا منك وأنت قطعة من وجودي سأصعد إلى القمر وآتى لك بفم تتكلمين به كل لغات العالم ” ..
**********
في رحلتي إلى القمر كنت أطوي ورقة تلو الأخرى حتى مزقت أوراقًا لاأدري كم عددها! لكن ثمن الورقة كان باهظا وكان هذا هو شرط الصعود إلى القمر إلا ورقة واحدة ..أدركت أمامها أنني عانقت القمر فلما صار في قبضتي هبطت به إلى الأرض فأدارت وجهها هي الأخرى – أي الأرض – بعيدا عني لأني لم أعد أحمل سمة العيش هنا ..
على مشارف المدينة لفظت عروستي القديمة أنفاسها الأخيرة – بين يدي – وأنا أركب لها الفم المستعار..ظللت ألهو بها حتى الصباح وقبل أن أواريها الثرى دعوت كل سكان المدينة فأكلوا وشربوا ثم قاموا للعب ..
وفي موكب الجنازة كنت أحملها بيدي اليمنى وباليسرى أرفع القمر ، أتحسسها للمرة الأخيرة فتخذلني آلام فراقها ..ثم أشخص للقمر فيستحيل الجحيم إلى فردوس لا نهائي، أصررت أن يمر الموكب بذلك المكان ..
لازالت أمى تجلس بقفص الفل ، هنا أرضعتني ثدييها على مرأى ومسمع من العالم دون حرج ،وهنا أيضا شقت ثوبها الوحيد البالي عندما اشتهيت عروسة من طراز جديد ! ..
هاأنذا أجلس تحت قدميك ياأمي وأكشف الأكفان عن وجه الدمية ، لاتبكي ..إنها فى سوق الدمى لاتساوي شيئا ، ولاتحزني على الأوراق الماضية الممزقة بل أميلى نظرك لهذا القمر كم هو بديع إنه قمر من نوع آخر! ..
سأتصدق على روح أبي ، سأبتاع لك ثوبا جديدا ، سأبني لك قصرا من النجوم تبيعين وتشترين فيه الفل كما تشائين ..بالله عليك يا أماه أعطيني تصريح الدفن ومفتاح المقبرة لأنه لم يتبق من الزمن سوى لحظات معدودات ..
لطمتنى أمي للمرة الثانية ثم انتزعت منى الدمية ومضت وحدها لتدفنها بعد أن حذرت كل الجمع ألا يلحق أحد بها ..
وفى كل ليلة يصرعنى شبح تلك الدمية ويطالبنى بالدم المهراق لكل الدمى ..
أيتها الورقة الأخيرة أبمقدورك – بعد أن رأيت عروستى الجديدة ذات الفم الذهبى – أن تبعدى عنى ذاك الشبح ؟ّ!..
( من كتاب ” الشاهد ” – مجموعة قصصية للكاتبة – الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة – سلسلة ابداعات – مايو 1997 )