ألقى قداسة البابا تواضروس الثاني، مساء اليوم الأربعاء، عظته الأسبوعية وقد حملت عنوان “لا تكن صغير النفس” وجاء نصها:
بسم الأب والابن والروح القدوس الإله الواحد أمين، تحل علينا نعمته ورحمته وبركته من الآن وإلى الأبد أمين.
اقرأ بنعمة المسيح جزء من الأصحاح الأول من سفر أرميا النبي “فكانت كلمة الرب إلى قائلًا قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك جعلتك نبيا للشعوب، فقلت آه يا سيد الرب إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد، فقال الرب لي لا تقل إني ولد، لإني كل ما أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما أمرك به، لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب” نعمة الله الآب تكون معكم جميعا أمين .
بدأنا في صوم الميلاد تأملاتنا الروحية في سفر يشوع بن سراخ، وهذا السفر نسميه حكمة يشوع، وهذا السفر في الحقيقة هو ٥١ إصحاح ممتلئ بعبارات الحكمة القصيرة، وهي تحمل خبرات الحياة الإنسانية، لكن من الملاحظات المهمة في هذا السفر أن هناك آيات كثيرة كلها تبدأ ب “لا” الناهية، فقد كلمتكم في الأسبوع الأول عن “لا تكن قاسياً”، والأسبوع الثاني عن “لا تكن ثرثارًا”، والاسبوع الثالث عن “لا تكن مغرورا”، و أحب أكمل هذا الأسبوع ب “لا تكن صغير النفس”، ففي سفر يشوع في الإصحاح السابع يقول “لا تكن صغير النفس في صلاتك”، وفي الأصحاح السادس عشر “لا تقل سأتوارى عن الرب ألعل أحداً من العلي يذكرني” ، يعتبر صغر النفس أحد الضعفات الإنسانية، أي يكون الإنسان غير واثق في نفسه، ففي الأسبوع الماضي تحدثنا عن “لا تكن مغرورا”، وهذا الأسبوع نتكلم عن “لا تكن صغير النفس”، والله يطلب منا أن نكون في الحد الوسط حد الاتضاع أو حد الحقيقة، بحيث يعيش كل إنسان بحسب حقيقته، وهذه نقطة مهمة جداً لأن صغر النفس يحارب كل إنسان، يحارب الصغير والكبير، يحارب الطالب وهو داخل الامتحان والشخص الذي يذهب ليتقدم لوظيفة. ونحن نصلي في التحليل للشخص الذي يشعر أنه قليل وضعيف، حتى الوصية التي نقرأها في صلاة نصف الليل تقول “لا تخف أيها القطيع الصغير فإن أباكم قد سر أن يعطيكم الملكوات”، أي كلما يأتي له إحساس أنه خائف وصغير يعود ليقول لنفسه أن الملكوت ينتظره، صغر النفس هو شعور لدى الفرد بأنه أقل من الآخرين بل والأخطر من ذلك أنه لا يقبل نفسه، وهذا شئ خطير، فهناك إنسان يعيش وهو غير قابل لنفسه، وغير قابل لقدراته، ثم بالتدريج تذهب عنه ثقته بنفسه، ويصل لدرجة كراهية النفس، ثم يبدأ يشعر أن كل الآخرين أفضل منه، وأنه مثل العدم، ومن الممكن أن يدخل في دائرة اليأس وقد يصل الإنسان إلى الإنتحار. لذلك كما يعلمنا يشوع بن سيراخ:-
أولا: لا تفقد ثقتك في نفسك مهما حدث
فيقول معلمنا يشوع “لا تستحي في عين نفسك” أي لا تنظر لنفسك على أنك قليل، فإذا كنت طالب تذاكر وتتعب ثق أن الله سيكلل تعبك بالنجاح، والمزمور يقول “الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالإبتهاج”، فلا تفقد الثقة أبدا لأن المسيح في ظهرك والقديسين يساعدونك وروح الله يعمل في داخلك، ففي بعض الأحيان يسمع الإنسان بعض الكلام المحبط، ولو تذكرتم قصة إديسون وكيف طرد من المدرسة، وكيف قال الناظر لأمه أنه غير نافع، ثم أصبح أفضل مخترع في تاريخ البشرية، وذلك لأن أمه وقفت خلفه وظلت تزع فيه الثقة في نفسه، وأنا أتذكر قصة عن الشاعر اللبناني كرم ملحم، الذي كان “ألدغ” في حرف الراء ، فأرادت مذيعة أن تقابله وتسأله أسئة كنوع من السخرية، فمن براعته ظل يتكلم معها لمدة ربع ساعة وإختار كلمات لا يذكر فيها حرف الراء، وأثبت جدارة بالغة، كذلك طه حسين كان ضرير وأسرته كانت أسرة قروية بسيطة ولكن زوجته وقفت بجانبه وكانت تعطيه ثقة في نفسه ، فأصبح من عظماء مصر وكان وزيرًا للمعارف، كما أصبح كاتبا ومفكرا وفيلسوفا، وكانت له نظريات واستطاع أن يقود جامعة الأسكندرية ، وأريد أن أذكركم بقصة في الكتاب المقدس عندما أتى صموئيل ليختار من بين أبناء يسى فبدأ بالكبير ثم باقي الأبناء، ولكن داوود لم يكن في الاعتبار لأنه الصغير، ولكن أبيه قال عنه أنه بقي فقط الصغير، على الرغم من ذلك داوود أستطاع أن يهزم جليات الجبار، وعلينا أن نعلم أن الذي هزم جليات ليست النبلة بل الثقة بالنفس التي وضعها في يد الله واستطاع أن يقول لجليات “أنت تأتي إلي بسيف ورمح وأنا أتي إليك باسم رب الجنود”، هذه الصورة الجميلة لم يلتفت فيها داوود لأصوات الإحباط التي حوله، وعاش وانتصر ولم يفقد الثقة بنفسه، أريد أن أقول لك شئ لا تقل أمام أي موقف أنا لا أقدر ثم تبتعد أو تهرب من المسؤوليات، بل إن وجدت ثقة في نفسك ستطيع بنعمة المسيح أن تجتهد وتنتصر، وتشعر أن الله يستخدمك، ففي إقامة الكثير من المشروعات التي نبدأ بها مثل بناء الكنائس وغيرها، نتسأل يارب كيف يتم ذلك فنحن ليس لدينا ما يكفي، ولكن نسمع صوت الله “أجعل ثقة في نفسك”، وهذه الثقة عندما نعمل بها تحقق نجاحاً كبيراً مثلما كان يقول المتنيح قداسة البابا شنودة عبارته اللطيفة “عندما توجد النية، الله يعطي الإمكانية” ، عندما توجد النية الصالحة، والثقة في نفسك، الله يعطي الامكانية، وأنا أذكر قصة رواها لنا المتنيح القمص بيشوي كامل في الإسكندرية عن السيدة الفقيرة التي جاءت وقالت له “خذ ال ١٢٠ جنيه دول ابني بهم كنيسة” بالطبع لا توجد كنيسة تبنى بمثل هذا المبلغ، لكنه أخذه وجعله مثل خميرة، ومن خلال هذه الخميرة الله بارك، وتم بناء كنيسة واثتين وثلاثة بهذا المبلغ البسيط .وأريد أن أذكرك بشخص مثل موسى النبي أحد الانبياء العظام، الذي قال لله أنه أغلف الشفتين فكيف يذهب ليتحدث مع فرعون والشعب، كذلك أرميا النبي كان يقول عن نفسه “لا أعرف أن أتكلم لأني ولد” ليرد الله عليه بتشجيع قوي”لا تقل إني ولد..لاني كل ما أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما أمرك به”، فلا يجب أن تقول على نفسك أنا قليل لأنك بنعمة المسيح تستطيع أن تفعل أشياء كثيرة، تستطيع تعمل وتخدم، أحيانا نأخذ شباب ثانوي ليدخلوا فصول إعداد خدام، ويتساءل الشاب منهم هل أنا سأستطيع أن أخدم. .كيف يحدث ذلك!! ؟ فأنا صغير ولا أعرف شئ”. وعندما يبدأ ويتدرب ويجد ثقة في نفسه يستطيع ويقدر ، وهناك شخص عندما يأتي للرهبنة حيث أنه طريق غير سهل فنجده يتساءل هل أنا سأستطيع على ذلك، ويبدأ عدو الخير يحاربه فيترك الدير والرهبنة، ونجد شخص آخر يضع ثقة في نفسه ويكبر في الحياة الروحية والديرية ويكبر في خبرات الآباء شيوخ البرية ويتعمق ويشبع ويفرح بحياته الرهبانية، ويعقوب الرسول يقول لنا “من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل فتلك خطية له”، لذلك لا يجب أن تهرب من المسؤولية عندما تكلف بها، طالما أنت صادق مع نفسك فعليك أن تضع ثقتك في نفسك ثم ضع كل شئ في يد الله.
ثانيًا: لا تفقد ثقتك بالله
فيقول يشوع بن سيراخ في الإصحاح السابع، لا تكن صغير النفس في صلاتك أي عندما يقف الإنسان ليصلي ويشعر أن الكلام الذي يقوله، سيصل عند الله، أو يكون يطلب دون إيمان، فأذكر شاب من الشباب الذي كان بعيد في حياته الروحية، وغير منتبه لنفسه، فقال لي أن صلاته لا تعدي سقف الغرفة، فهو أراد أن يقول أن صلاته ضعيفة، فالصلاة لكي تصبح قوية وتصل إلى مسامع الله من خلال إيمانك، وان تقدم طلباتك الروحية بإيمان ولجاجة بستمرار وأن تصرخ من قلبك حتى دون أن تنطق شفتاك، فالصلاة حتى وإن كانت صغيرة جدا ولكنها يجب أن تصل إلى أذني الله، فعندما نتقابل معاً صباحاً ونقول صباح الخير وصباح النور، نقصد أن هذا الصباح يخص الله ، فهو كلي الخير وهو الساكن في نور لا يدني منه، لذلك نقول أن هذا اليوم الجديد الله العامل فيه، الله صاحب الخير الذي به، وهذا يعطي لك نوع من الثقة فيه، الله الذي يدير هذه المسكونة ويدير الحياة ويدير الطبيعة، ويدير الفلك والنجوم والكواكب والشموس في الفضاء، وفي نفس الوقت يدير أصغر خلية، كل خلية في أجسامنا وفي أجسام كل الكائنات الحية كأن داخلها عقل يديرها فهي يد الله الذي تدير العالم كله، الله الخالق، الذي يدير الخليقة كلها الإنسان والحيوان والنبات، حتى الكائنات الصغيرة التي تدعى وحيدة الخلية يدير الله الحياة فيها، لكن أحيانا الإنسان يشعر بصغر النفس بسبب الحساسية الزائدة التي داخله حيث يكون الشخص حساس لاي شئ صغير، فإذا مثلا حاول هذا الشخص الإتصال بصديقة ولم يرد عليه فنجده يقول أنه لا يريد الرد عليا، فهو يأخذ مني موقف، لو دخل صديقه في مكان وسلم على الناس ولم يسلم عليه يقول أن صديقه يقصد تجاهله، هناك أنواع من البشر لديهم حساسية زائدة، فنجده يقول أن هذا الشخص متضايق منه، والآخر غير مهتم به، وأحيانا هذه الحساسة تجعل الإنسان يبعد عن باقي الناس الذين حوله، كما تجعل الناس تبتعد عن هذا الشخص، لان أبسط المواقف تجعله يأخذ موقف، ونجد يشوع بن سيراخ بقول سأتوارى عن الرب، فهل هذا يعقل ؟ لا تفقد ثقتك بالله فهو يراك ويدبر أمورك لأنه ضابط الكل، وهو الذي يقدم لك النعم كثيرة كل يوم ، مثل نعمة الستر ونعمة الصحة، وأن يأتي بك إلى هذه الساعة ويعطيك نعمة العمر، انتبه الله مازال يحفظ البشر ، ويقول معلمنا بولس الرسول “المسيح فيكم رجاء المجد”، يعني المسيح موجود في حياتنا ويعمل معنا، ويعض ثقتنا وشخصيتنا، الإنسان صغير النفس لا يستطيع أن يكون طاقة عاملة، ويضيع على نفسه نعم كثيرة أعطاها له الله ، ولا تنسى أن الله الخالق عندما خلقك، خلقك على صورته ومثاله ، وأعطاك نعم كثيرة وروحه القدوس يعمل داخلك، ويقويك، ويمكنك ويجعلك تستطع أن تتكلم وتنجح، ولكن يجب أن تكون أمين وتعمل، ومثلما يقول الإنجيل الذي تقرأه في صلاة نصف الليل لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سرى أن يعطيكم الملكوت، وهذه الآية تذكرني بالوعد الذي أعطاه لنا السيد المسيح في آخر آيات إنجيل معلمنا متى البشير حيث يقول “إذهبوا ..تلمذوا..وعمدوا.. وعلموهم جميع ما أوصيكم به” ومن الممكن أن يتساءل البعض ويقولوا كيف نفعل كل هذا ؟ ولكنه يكمل ويقول، “ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر “، و جملة “ها أنا معكم” تمثل ثقتك في الله التي تعمل، وعندما نقرأ في سفر أعمال الرسل وعمل الله في الكنيسة الأولى، وكيف كان الله يفتح الأبواب بالرغم من تعب الآباء الرسل في بعض البلاد التي ذهبوا إليها. وحتى الآن مازال يفتح أمامنا الأبواب، فهو يفتح ولا أحد يغلق .
ثالثا: لا تفقد ثقتك بالأبدية:_
الله أعطاك نعمة الحياة على الارض، ربنا يعطيك العمر الطويل، ولكن يجب أن تضع أمامك أيضا الأبدية، وألا تفقد ثقتك بأن لك حياة في السماء، لأن هناك كثير من الناس تضع كل أحلامها في التراب، حيث يتم تلقيبهم بأهل الطين، وقد خرجت الكثير من الفلسفات تقول لنجعل السماء الله، ويبقى الإنسان الأرض، ويسير الإنسان حسب إرادته وعقله وأفكاره التي قد تضيعه، في العهد القديم عندما ذهبوا ليتجسسوا أرض كنعان، أرسلوا ١٢ شخص، فعاد ١٠ أشخاص وقالوا “لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنهم أشد منا” حيث نظروا إلى قوة الناس وعاشوا في صفر النفس، ولكن يشوع وكالب نظروا إلى مشهد آخر، إلى مشهد عنقود العنب والأرض التي تفيض لبنا وعسلا ، ثم عادوا وقالوا “إننا نصعد الأرض ونمتلكها لأننا قادرون عليها” ، فهناك شخص يرى الشيء ويقول “مفيش فايدة”، ولكن هناك شخص آخر لديه إصرار ورؤية إيجابية، وهذه الرؤية تجعله ينجح، وترمز لنا كنعان أرض الموعد الجديدة للسماء ، لذلك لا تفقد ثقتك وجاهد على الأرض ليكون لك نصيب في السماء، فاللص اليمن الذي عاش حياته طولاً وعرضا بعيدًا عن الله ولكنه قال عبارة كانت بمثابة توبة واعتراف ورجاء وصلاة ” أذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك”، كان لديه ثقة أن يكون له نصيب لينال هذه الثقة.. “اليوم تكون معي في الفردوس”، لا يجب أن تقع في صغر النفس واليأس ولا تجعل الخطية تصغرك ، فمهما أوقعتك في التراب والوحل يمكن أن يكون لك نصيب، ويمكن أن تعود، ويمكن أن تقوم وتبدأ من جديد، ويقول الكتاب المقدس في يشوع ابن سيراخ “لا تخشى قضاء الموت أذكر أوائلك وأواخرك.. هذا هو قضاء الرب على كل ذي جسد” إي حياتك لا تسلمها لضعاف النفوس، فإذا أردت أن تتعلم الصلاة التصق بإنسان محب للصلاة وإذا أردت أن تتعلم الألحان فالتصق بإنسان محب للالحان، وإذا أردت أن تتعلم لغة معينة فالتصق بإنسان محب لهذه اللغة، أما إذا التصقت بإنسان ضعيف ستضعف أكثر، وهناك مثل يقول “الصاحب ساحر”…لاتفقد ثقتك بالأبدية، أنظر لعنقود العنب ، وكما يقول بولس الرسول ” أن الله لم يعطينا روح الفشل بل روح القوة والمحبة والنصح”، وفي سفر يوئيل يقول ” ليقول الضعيف بطلا أنا”، أنا إمكانياتي ضعيفة ولكن عندما أمسك في يد الله أصير بطل لذلك لا تفقد الثقة في الأبدية.
الخلاصة لا تكن صغير النفس ولا تقع في هذا الفخ وثق بنفسك، وثق في الله، وثق في الأبدية التي أنت مدعوا إليها. ومثلما قال الله لأرميا النبي لا تقل إني ولد” .