منذ عشرات السنوات ونحن نتحدث عن التنوير, وللأسف كلها شعارات جميلة ومقالات رائعة, وعندما تبحث عن الواقع فإنك تجد التنوير في واد ونحن في واد آخر. فهل نحن نريد لمجتمعنا التنوير فعلا أم هي شعارات وهمية ومقالات للاستهلاك فقط, ويبقي كل شيء علي ما هو عليه وليس في الإمكان أبدع مما كان؟!
التنوير والمجتمع المدني المتحضر يحتاج عملا وكفاحا وإرادة وتصميما, ولنا في الفيلسوف العربي ابن رشد, والفيلسوف: ديكارت, والفيلسوف: كانط نموذج للتنوير واستخدام العقل فهل نهتدي بآرائهم الإيجابية وتجاربهم الناجحة في بداية حقيقية للتنوير واللحاق بحضارة العالم؟!
* الفيلسوف ابن رشد 1126م ـ 1198م فيلسوف عربي, كان عالما وفقيها وقاضيا وطبيبا, وهو فيلسوف العقل الذي دعانا إلي جعل العقل الدليل والمرشد وقال: إن البرهان العقلي يعد أسمي صور الأدلة, وكان قد استفاد من فلاسفة اليونان والعرب في المشرق والمغرب الذين سبقوه لكنه قدم لنا بعد ذلك آراء خاصة به ناضجة عملية, وقد اهتم بفلسفة, أرسطو, حتي أنهم أطلقوا عليه لقب الشارح الأعظم, وهو من أعظم فلاسفة المشرق والمغرب, وقد استفادت منه أوروبا وتقدمت بآرائه وفلسفته العقلية, وللأسف أهمله العرب بل ووقفوا ضده, فتقدمت أوروبا وأخذ المشرق محلك سر وإلي التخلف الذي يعيش فيه الآن! درس ابن رشد مشاكل المسلمين والعرب وتوصل إلي السبب الحقيقي لها وهو إهمال العقل وعدم استخدامه, فالعقل أشرف ما خلقه الله فينا وهو أعدل الأشياء قسمة بين البشر, ويجب علينا أن نجعله معيارا وأساسا لحياتنا الفكرية والاجتماعية. شجعنا ابن رشد علي الإقبال علي علوم الآخرين, وما كان منها صوابا قبلناه وما كان منها ليس صوابا نبهنا إليه ورفضناه. ونفس الوضع بالنسبة للتراث يجب أن ندرسه جيدا ونغربله ونستبعد الغريب والخرافات منه ونبقي علي صحيح الدين والفكر. دعانا أيضا الفيلسوف ابن رشد إلي تأويل النص الديني, أي استخراج المعاني الكثيرة التي يحملها النص بين سطوره وروحه.
كذلك بين لنا أن الإسلام ليس فيه ما يسمي برجل الدين.
المشاكل التي يخلقها رجال الدين ليست من الدين فالحقيقة أن العيب ليس في الدين, ولكن في الفهم الخاطئ للدين من بعض رجاله وفقهائه, قال هذا وهو رجل وفقيه في الدين!, قدم ابن رشد أفكاره هذه في عدة كتب منها: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال. ومناهج الأدلة في عقائد الملة. وتهافت التهافت. الذي رد فيه علي كتاب: تهافت الفلاسفة الذي هاجم فيه الشيخ الغزالي الفلسفة. يقول أسيمة جانو في كتابه: موسوعة الألف عام شخصيات صنعت التاريخ:
يعتبر كتاب ابن رشد: (ما بعد الطبيعة) من أهم كتبه التي اعتمد عليها الغرب كثيرا ولمدة قرون في فهم الفلسفة اليونانية ويمكن إحصاء ما لا يقل عن مئة مجلد لابن رشد وصلنا منها 58 كتابا بالعربية عن أرسطو وغيره.
ابن رشد دافع كثيرا عن المرأة وطالب بدور سياسي لها. وهو ما يحسب له في دوره التنويري. كما كان يؤمن أيضا بأن الفلسفة وحدها هي الطريق إلي الوصول إلي الله.
* لم يستوعب التقليديون والأصوليون فلسفة ابن رشد العقلية فهاجموه وحاكموه وطردوه من بلدته وحرقوا كتبه. وهناك من يري أن ابن رشد لم يكن أعظم فلاسفة المسلمين في حين يري الدكتور عاطف العراقي في كتابه: ابن رشد فيلسوفا عربيا بروح غربية أنه أعظم فلاسفة العقل عند العرب علي وجه الإطلاق.
مازال العالم يحتفي بابن رشد ويحتفظ بتراثه التنويري. فهناك الجمعية الدولية لابن رشد والتنوير التي يرأسها الفيلسوف المصري المعروف مراد وهبة, وهو المقاتل المغوار من أجل التنوير في مصر والعالم العربي. يقول الدكتور مراد وهبة في كتابه: الأصولية والعلمانية:
إن ما يحدث في مصر, لا يمت للتقدم بصلة ولهذا لا توجد رؤية للتقدم ولا رغبة فيه ولا تفكر في تغير أسلوب التفكير, العقل مغيب وفي محنة حقيقية, التنوير غائب, الحريات معطلة, الدين مسيطر, النظرة للديمقراطية مشوهة, العلمانية مكفرة, والأغلبية فقدت شجاعتها في استخدام العقل..
* الفيلسوف: رينيه ديكارت 1596 ـ 1650م.
هو أبو الفلسفة الحديثة وعلي الرغم من طفولته الصعبة المريضة إلا أن أباه كان يفخر به ويقول: فيلسوفي الصغير, تلقي تعليمه في مدرسة (لافليش) اليسوعية وكان دائما علي رأس قائمة الأوائل في المدرسة التحق بالجيش وكان يتوق أن يشترك في القتال. لكنه كان دئما يشك في كل ما يعرف ويقول في ذلك: اقتلعت تدريجيا من عقلي جميع الأخطاء التي كانت قد تسربت إليه قبلئذ. وكانت النتيجة الأولي لعملية الاقتلاع هذه حالة من الشك الكامل في العالم كما يدركه عن طريق حواسه وإلغاء كل ما اعتنق من أفكار, ثم يعرض ذلك كله علي بساط البحث, ويختبره بمخبار الشك ويضعه تحت تصرف العقل وحكمه. يقول الدكتور صلاح السيد بيومي في كتابه: أعلام الفكر الحديث: إن ديكارت يشبه هذا الموقف بسلة مملوءة بالتفاح فيه الجيد وفيه الفاسد. وما علينا إلا أن نفرغ السلة كلها منه, ثم نختار التفاح الجيد واحدة بعد أخري ونضعه في السلة, حتي يصبح كل ما في السلة تفاحا جيدا. ولا شك أن ذلك لا يكون مفيدا ونافعا إلا إذا كان صادرا عن إرادة حرة حرية تامة وحازمة.
يقول الدكتور هنري توماس في كتابه: أعلام الفلاسفة كيف نفهمهم؟: هكذا اتخذ ديكارت من شكه بداية إيجابية لا نهاية سلبية, ومن جميع آرائه غير المحققة المشكوك فيها وجد حقيقة واحدة ثابتة. وهي أنه قادر علي التفكير, فالعالم المادي قد يكون خداعا, أما فكره فهو حقيقة مؤكدة, لأنني أنا الذي أفكر لابد أن أكون موجودا. وقد دفع ذلك ديكارت إلي أن يقول جملته المشهورة: أنا أفكر إذن أنا موجود وأملك العقل المفكر. ثم يشرح لنا ديكارت فكرته عن الله فيقول: نشأت فكرتي عن الله عندما كان عقلي الناقص يبحث عن شيء أكثر كمالا من نفسي, ودفعني هذا إلي التفكير في شيء أكثر كمالا, فوجدت هذا الكمال في كلمة واحدة هي الله. فهو جماع الكمال كله, وخالق العقول كلها, وبالجملة فهو المتصف بكل ضروب الكمال التي يمكن أن يتصورها عقل.
* هكذا يرشدنا [رينيه ديكارت] إلي الشك ثم اليقين ثم الإيمان بالله بعد أن نخلص عقولنا من المعلومات والحقائق الباطلة والخرافات التي قد تكون قد علقت به.
* ونأتي للفيلسوف: عمانويل كانط 1724 ـ 1804م ولد كانط في بروسيا, كان والده رجلا متواضعا يعمل بصناعة الجلود, أما والدته فكانت سيدة متدينة بروتستانتية تتمسك بطقوس الدين تمسكا شديدا, ويبدو أن رد فعل هذه التربية في الابن كان عكسيا. إذ ابتعد كانط في رجولته عن الكنيسة. لكنه عاش يبحث عن الله بطريقته العقلية الخاصة البعيدة عن طقوس السلف. عاش صاحبنا محبا بل عاشقا للفلسفة فقرأ كثيرا لنيوتن, وليبنتز وروسو وغيرهم وحصل علي درجة الدكتوراه 1755م وعمل مدرسا, لكنه كان مدرسا مغمورا متواضعا.
* في سن السابعة والخمسين تغيرت حياة [كانط] بعد أن قدم إنتاجا أذهل العالم كله وهو ثلاثة كتب عظيمة هي:
* نقد العقل الخالص, الذي تشكك فيه في الله, وفي نفس الوقت عالج مشكلة المعرفة.
* الكتاب الثاني: نقد العقل العملي. وفيه يثبت وجود الله وأنه هو السعادة والأمل.
* الكتاب الثالث فهو: نقد الحكم وفيه يتساءل أين تجد الله؟ ويجيب في جمال الطبيعة وروعة الكون ونظامه وهذا يجذب الإنسان إلي خالقه ويبادله الحب, وهناك ضمير الإنسان وهو ما يأمر به قلبك ويحرم عليك العدوان والجشع والتعصب والخيانة والقتل والحقد والسرقة, وليكن كل إنسان غاية في ذاته بدلا من أن يكون أداة في يد غيره. لا تسخر جارك ولا تستغله. فليس هناك أبشع من أن يخضع سلوك إنسان لإرادة إنسان آخر.
تتمثل فلسفة كانط, في ثلاث حقائق هي:
الله, حرية الإنسان, خلود الروح. فقصة حياتنا الحاضرة إن هي إلا فصل لم يكتمل في قصة أكبر هي الحياة الآخرة.