– محاولات التجني على اسرة محمد على وطمس منجزاتها
“يجري ابناء القرية بينما تسقط الحبال على رقابهم وايديهم لتسوقهم مكتوفين إلي اماكن السخرة وحفر القناة، ورغم العدد الهائل الذي تم جمعه يصرخ احد المكلفين بجمع الانفار في شيخ البلد (كمان.. كمان)، فيرد شيخ البلد: (لم يعد هناك في البلد غير الولايا.. هاتاخدوهم؟)، وتبقي شفيقة وحدها” ، تلك أحد أهم اللقطات المؤلمة والمحزنة التي جسدها الفن المصري في فيلم “شفيقة ومتولي”، والذي تميز بتوثيقه لأبرز الأحداث التاريخية التي شهدتها المحروسة على مر تاريخها، فقد حاولت السينما التطرق إلى قناة السويس من خلال عدد من الأعمال، سواء في السينما أو المسرح، في محاولة منها لعدم الانفصال عن الواقع بشكل تام، لتقدم في النهاية عدداً من الأعمال المحدودة ولكن المؤثرة.
وحتي نستطيع بيان مدي تأثير القناة في وجدان الشعب المصري، تذهب بنا الدكتورة إيمان عامر في كتابها “قناة السويس في الوجدان المصري”، كيف تم ادخال مسألة القناة والمعاناة التي عاناها المصريون من جراء حفر القناة في الملاحم الشعبية التي تحولت إلي افلام سينمائية ومنها فيلم “شفيقة ومتولي” الذي اخرجه علي بدرخان، ونحن في هذه القصة نري المعذبين في الارض من الفقر والحاجة، حيث تدور الاحداث في الصعيد حينما يتم طلب “متولي” للتجنيد الاجباري ضمن الآلاف من قري مصر لحفر قناة السويس.
ويأخذنا الفيلم في رحلة مشوقة مع “الغز” وهم ينهكون القرية بخيولهم بحثاً عن 360 شاباً من العفاة أصحاب السواعد القوية، يسوقونهم كقطيع من الماشية ليحفروا مجراهم الملاحى بأرواحهم الممزوجة بالعرق والدماء، بينما تلفح وجوههم السمراء حرارة الشمس الحارقة وتلهب أجسادهم العفية أثناء بحثهم عن قطرة ماء، وتكون جملة «عفارم يا متولى» إذناً بقتل كل من تخلف عن الحفر، «وكل جلدة على ظهرك يا متولى ترسم قناه السويس»، صورة حاول الكاتب صلاح جاهين أن يرسمها من خلال رائعة الأدب الشعبي «شفيقة ومتولى» مصوراً ظروف حفر القناة التي عمل فيها المصريون في فترة تجاوزت 10 أعوام.
وفي مشاهد مؤلمة ومحزنة نري معاناة المجندين في السخرة وسخطهم على ما يقوم به الفرنسيون من استغلال لكل امكانيات البلاد من اجل حفر القناة، وفي حوار بينهم يتحدث هؤلاء عن العبيد الذين احضرتهم فرنسا من السودان عبر درب الاربعين ليشاركوا في حفر القناة (بدل اللي ماتوا في الوبا)، ويقول احدهم ملخصا كل ما يعرفونه عن مسألة الحفر ( الفرنساويين جايبنهم ما هي القنال بتاعتهم والانجليز واقفين لهم بالمرصاد زي ناقر ونقير عايزين يلهطوا هما كمان من الانجليز). لهذا يعد فيلم “شفيقة ومتولي” ملحمة تاريخية صادقة عن فترة من اهم فترات تاريخ مصر وهي فترة الاحتلال.
كما عكست لنا بعض الأفلام السينمائية الاحداث التاريخية من خلال منظورها السياسي ورؤيتها الخاصة، فقد لقي الخديوي اسماعيل وعصره بعض الاهتمام من السينما، ولكن بشكل عكسي، حيث تحول الخديوي إلي شخصية مبتذلة شهوانية، ويتضح ذلك من فيلم “المظ وعبده الحامولي” الذي اخرجه حلمي رفله 1962، وشارك في الحوار والسيناريو عبدالحميد جوده السحار ونيازي مصطفي وصالح جوده.
فالفيلم محاولة صريحة لإدانة اسرة محمد على والتقليل من أهمية انجازاتها وتصوير لواحد من حكامها البارزين وهو الخديوي اسماعيل على انه “زير نساء”، ويعكس ذلك المنظور السياسي للفيلم اكثر من التاريخ، هذا ما اوضحه الدكتور محمود قاسم في كتابه “الفيلم السياسي في مصر”، فبداية الفيلم تعكس رؤية السينما للخديوي في شخصية الممثل (حسين رياض) الذي يظهر في مشهد يجالس احدي الجميلات يأتيه ديليسبس حاملا عقد قناة السويس ليفاوضه بشأنه، بينما يري الخديوي ان مجالسته للفتيات الجميلات اهم من مفاوضة دليسبس، ويبدو من هذا الامر مدي محاولة الفيلم للتقليل من منجزات اسماعيل حتي في حفر القناة لمصر، ولم يحاول التعرف على منظورة الحضاري ولا على منطوقة الانساني او العقلاني، ولعل هذا المنظور لعائلة محمد على يوضح محاولات تغيير صورة التاريخ تماما، خاصة المتعلق بأسرة محمد علي وطمي انجازاتها قدر الامكان.
ونحن لا نتحدث عن وجوب إنتاج فيلم يمس الحقيقة، ولكن كانت هذه هي نظرة الفن لأبناء اسرة محمد على وانجازاتهم وخصوصا عن أهم حدث في عصرهم وهو حفر قناة السويس، وقد بدا هذا واضحا من خلال مسرحيات من طراز “سيدتي الجميلة”، فقد نظر الفيلم إلي الرجل الذي شق الترع وقناة السويس في عهده، والي باعث مصر الحديثة باعتباره طاغية، صائد النساء في المقام الاول. ولكن من الضروري ان نذكر ايضا ارتباط شخصيتي سعيد واسماعيل بانهيار الاقتصاد المصري، وتدفق الاجانب على مصر وفقدان مصر لأسهمها في القناة وتورطها في القروض وكل التداعيات التي ادت الي فقدانها استقلالها.
ولم تقف الأعمال السينمائية عند احداث ومشاهد حفر القناة فقط، بل امتدت إلي ليلة 26 يوليو عام 1956 وبالتحديد في اللحظة التي أعلن فيها عبدالناصر تأميم شركة قناة السويس، لتجسد مراحل حياة المواطن المصري، ومن هنا اخذنا المخرج عاطف الطيب في فيلمه “ابناء وقتله” عام 1987، إلي شخصية “شيخون” أحد الذين تلقوا خبر تأميم القناة بإلقاء بعض التعليقات الحماسية، وهو يعمل في بار كسائق للزبائن يمتلكه اجنبي، ثم ما لبث ان عاد للانهماك في عمله رغم انه احد الذين استفادوا من هذا القرار التاريخي، فبعد إعلان التأميم اصبح على صاحب الحانة ان يترك البلاد وان يبيع الحانة، وعلى شيخون ان يدبر نقودا لشراء الحانة باي ثمن، وهذه قصة واحد من الالف القصص التي تناولت شراء العقارات تمت عقب تأميم ناصر لقناة السويس، فشيخون لم يمارس السياسة، وهو يصعد اجتماعيا، بعد ان اكتشف أن اكبر ناس في البلد يمكن ان يلقوا به من حيث اتي.. لذا كان عليه ان يصادقهم، فشيخون ليس شرا كله وليس خيرا كله.
كذلك استطاعت اسرة شيخون الارتباط بالسياسة ولكن بشكل غير مباشر، فلا شك انه استفد من بعض الاحداث التاريخية كما اشرنا حول تأميم القناة، ثم الاتجار بالأسلحة، والتعامل مع الشرطة ببيع ما يلزمها من سلاح عند الحاجة، ومع ذلك ظل شيخون مجرد تاجر سلاح قد يلجأ إلي الالتواء، فهو لم يلعب سياسة ولا تاجر في المخدرات.
– “قناة السويس”.. الماضي والحاضر:
ولكن كان للسينما التسجيلية رأي آخر، حيث تسابق العديد من المخرجين لتوثيق وتسجيل لحظات حفر القناة منذ اليوم الاول. فقد اجتهد المركز القومي للأفلام التسجيلية لتقديم فيلم بعنوان “قناة السويس” اخراج عنان نديم يجسد الصراع منذ حفر القناة وحتي اعادة افتتاحها في 5 يونيه 1975 علي يد الرئيس الراحل أنور السادات. بالإضافة الي سلسلة افلام المخرج عبدالقادر التلمساني بعنوان سيناء الحرب والسلام سيناء أرض الأديان سيناء مشتي عالمي والتي تحكي تاريخ سيناء بما فيها قناة السويس.
ثم جاء عصر قناة السويس الجديدة ليندفع العديد من السينمائيين لتسجيل وتوثيق الحدث العظيم. فقد تم اعداد فيلم بعنوان قناة السويس رمز الإرادة المصرية، والذي يحكي تاريخ القناة منذ نشأتها وحتي اليوم. إضافة الي فيلم من انتاج هيئة قناة السويس بعنوان “قناة السويس.. الماضي والحاضر والمستقبل”، وتصدي المخرج الشاب مجدي الهواري لإعداد فيلم بعنوان “الحلم المصري العظيم” والذي يحكي مراحل حفر القناة الجديدة خلال 40 دقيقة هي زمن الفيلم، حيث يسجل الفيلم اهم لحظات العمل منذ الشرارة الاولي لعملية بداية الحفر وصولا للمراحل النهائية واتمام الانتهاء واكتمال المشروع.
– الذين ضاعوا في حفر قناة السويس:
من جانب آخر نجد أن الاعمال المسرحية مثلت جانبا مهما من جوانب التفاعل مع الوجدان المصري، فقد برزت اهم الاعمال خلال فترة حفر القناة لكي تصور رحلة عذاب الفلاح المصري.
ومن اهم تلك الاعمال التي صدرت في تلك الفترة، مسرحية “يا عزيز عيني” التي قام بتأليفها الدكتور سيد خاطر في عام 2006، والتي تمثل بعد سنوات طويلة عرضا يناقش اغتراب المواطن المصري داخل بلده، ويقدم صاحب الرؤية الدرامية رحلة عذاب الفلاح المصري للبحث عن فرص للعمل، والذي اجبرته الظروف القاسية على السفر مستدعيا ذكري جده الذي ذهب في “الترحيله” مع الذين ضاعوا في حفر قناة السويس.
كذلك مسرحية “عفاريت الجبانة” لنعمان عاشور في عام 1956 وتتحدث عن قصف الطائرات الفرنسة والإنجليزية لمدينة بورسعيد ودور المقاومة الشعبية وكيف أدى العدوان إلى التلاحم الشعبي، وقد حازت هذه المسرحية على الجائزة الأولى للمجلس الأعلى للآداب والفنون .
أما مسرحية “صوت مصر” فقد ألفها الفريد فرج في هذا التوقيت أيضا وتدور أحداثها في شقة في بورسعيد بها مجموعة من افراد المقاومة يموت احدهم وتحاول أخته بعدما استشعرت موته بعد غيابه فترة طويلة أن تشترك في المقاومة الشعبية مع زملائه .
هكذا يتضح لنا أهمية دور الأعمال الفنية في تشكيل الوجدان المصري ودوره في حفظ التراث والاحداث التاريخية الهامة .