مصر في مرحلة مخاض لميلاد مجلس نواب جديد يستهل عمله في يناير المقبل ويباشر دوره التشريعي والرقابي لمدة خمس سنوات… مجلس قوامه 568 عضوا نصفهم تم انتخابهم بنظام القوائم ونصفهم الآخر تم انتخابهم طبقا للنظام الفردي علي أن تستكمل مقاعد المجلس من خلال نسبة الـ5% التي تصل من خلال تعيين رئيس الجمهورية لها.
هذا التشريح كما أوضحت يتوزع بين القوائم والفردي والتعيين, الأمر الذي لا يعكس المعايير السياسية المتوقعة في مجلس النواب من حيث الانتماءات الحزبية أو الأيديولوجيات والبرامج, وهي المعايير التي من شأنها أن تفرز التكتلات التي تشكل أغلبية ومعارضة إما بشكل مباشر أو من خلال تكوين تحالفات, وهذه التكتلات منوط بها مخاطبة الجماهير من خلال برامج سياسية وحلول للتحديات التي يواجهها المجتمع ورؤي لتحقيق أحلامه وطموحاته بحيث تتنافس كل كتلة لاجتذاب مؤيدين وأنصار… وهذا أول وأهم ملامح الديمقراطية.
فإذا كان النظام البرلماني يمثل حكم الشعب للشعب ويكفل تمثيلا نيابيا يحل فيه النائب ممثلا عن قاعدة انتخابية, فلا غني عنه للانتماء إلي تيارات حزبية ترفع قناعات سياسية وبرامج تقف خلفها تلك القواعد الانتخابية, فيكون النائب الفرد غير محدود بتأثيره الفردي بل يستمد قوة من خلال اشتراكه وتحالفه مع من يتفقون معه في التوجهات ويؤمنون بذات المبادئ ويشكلون معا جبهة تصويتية داخل البرلمان.. وهذه عينها مواصفات الأحزاب السياسية.
إذا الأحزاب السياسية هي نواة العمل السياسي وأيديولوجياتها وما تفرزه من برامج هي جواز مرورها إلي الجماهير وثقلها في الشارع المصري سواء منفردة أو عبر تكتلها مع أحزاب أخري, وهو سبيل اكتسابها مساحة برلمانية تعبر من خلالها عن نفسها سواء من مقاعد الأغلبية أو المعارضة.
وأعود إلي تشريح مقاعد البرلمان الذي بدأت به مقالي هذا لأبحث عن هذه التيارات الحزبية فلا أجد ملامح واضحة -علي الأقل من واقع الترشيحات وقبل النتائج النهائية -بل تنحصر الملامح في القوائم والفردي والمعينين… وأبحث عن تعدد الأيديولوجيات وتباين البرامج والسياسات وتنافس الأجندات الانتخابية فلا أهتدي… وأتلمس مؤشرات للأغلبية والمعارضة فأقف حائرا بين هذه وتلك.
هذا الواقع يعود بنا إلي فتح ملف الإصلاح الحزبي في مصر وهو الملف الذي أستمر أنا مثقلا به مع الكثيرين والذي كتبت عنه مرارا… إذ نحن أمام واقع ظاهره براق بينما جوهره عليل وهو التعددية الحزبية التي أفرزتها سياسة حرية تشكيل الأحزاب دون وضع ضوابط ومعايير لتقييم الأحزاب المنضمة إلي الخريطة الحزبية, سواء تصنيف توجهاتها السياسية أو قياس مستوي تواجدها بين الجماهير أو تتبع العضوية الحزبية فيها, فكانت النتيجة حشدا ضخما يتجاوز المائة حزب أقلها تمتلك تلك المعايير وأكثرها تفتقر إليها, وبالتالي ما حصدته مصر من هذه السياسة ما يوصف بأنه تشرذم حزبي أو أحزاب كرتونية موجودة شكلا وليس فعلا.
وكانت ولاتزال الروشتة الإصلاحية المطروحة هي تشجيع -أو إلزام- أعضاء الخريطة الحزبية نحو الاصطفاف سويا وتشكيل تحالفات سياسية بناء علي توجهاتها وأيديولوجياتها بهدف تأسيس كتل حزبية تتوزع علي أركان الطيف السياسي الراسخ في سائر الديمقراطيات بين اليمين -يمين الوسط- الوسط- يسار الوسط- اليسار… هنا تكون الفروق ومساحات التنافس واضحة للجماهير ومنعكسة علي البرامج والأهداف وليست مبهمة حائرة مستترة خلف مسميات ظاهرها وطني وحقيقتها زئبقية.
ولكن كيف يتم ذلك حتي نحصد عملا برلمانيا فاعلا وممارسة ديمقراطية حقيقية ينضج وينمو في ظلها شبابنا ليتم إعداده للمشاركة والمنافسة وتدوير وتداول السلطة؟… أعود إلي ما سبق وأن صرح به الرئيس السيسي في مايو 2017 في معرض حديثه لرؤساء تحرير الصحف القومية عندما قال: دعوت أكثر من مرة إلي اندماجات بين الأحزاب المتشابهة في برامجها وتوجهاتها السياسية من أجل خلق أكثر من حزب قوي لتسهم الخريطة الحزبية في تفريخ الكوادر المؤهلة لتداول السلطة, وأتمني أن نري الأحزاب ذات الأيديولوجيات المتشابهة تسعي نحو التنسيق فيما بينها للاندماج.
كتبت عن هذا الأمر مرارا وتكرارا دون تغيير ملموس من جانب أعضاء الخريطة الحزبية, كان ذلك في هذا المكان بتاريخ 2017/10/29, 2018/1/28, 2018/2/25, 2018/4/22, 2018/5/27, 2018/10/14, 2019/2/3, 2019/12/29 حتي أنني تساءلت ضمن ما كتبت: … إذا ما تقاعست الأحزاب عن إدراك ذلك طوعا, وإذا ما حالت أعباء البرلمان دون التصدي لذلك بمبادرة تلقائية, تظل هناك سلطات الرئيس التي تسمح له بإرسال تكليف تشريعي أو مشروع قانون للحكومة أو لمجلس النواب لبلوغ الإصلاح الحزبي المنشود… فهل يحمل لنا المستقبل البرلماني هذا الإصلاح الحزبي؟