أنطون سيدهم .. والقضايا الاقتصادية
إن الإنسان ليقف حائرا ملتاعا إذا ما فكر فيما عانت بلاده, وما حاق بها في جميع مناحيها, بعد سنوات حرب طويلة بين كر وفر, هزائم وانتصارات, مازالت تعض فينا بنواجذها في ما خلفته سنوات كبت وقهر حكمتها فيها مراكز القوي الجاهلة, سنوات استنفدت فيها ثرواتها وأغرقتها في الديون الطائلة, أيام سوداء, ما كان يجول بالفكر أو الخاطر أن تمر بمصرنا الحبيبة. هذه الأعوام المشئومة تركت البلاد في أسوأ حال في جميع مرافقها وفي كل ناحية من نواحيها.
* الزراعة هبط مستواها وقل إنتاجها لأسباب عديدة, وأصبحنا نستورد لقمة العيش, ارتفعت أسعار الخضروات والفواكه بشكل عارم قاصم ضج منه الميسور الحال والفقير حتي أصبح الكثير من الضروريات مثل الكماليات لا يقدر علي الحصول عليها أغلب الشعب, ومع تزايد السكان بالسرعة المتوقعة سنويا سيؤدي بنا الحال إلي استيراد أغلب المنتجات الزراعية لإطعام هذا الشعب البائس.
* والصناعة سيطرت عليها قوانين وأنظمة خاطئة, وتولاها غير جديرين بها, عدا أن أغلبها أنشئ بدراسات غير سليمة, كل ذلك أدي إلي سوء إنتاجها وعجزها عن الصمود أمام منافسة المنتجات الخارجية, فتكدست منتجاتها في مخازنها لا تجد من يشتريها, وأدي سوء توزيع المصانع بالبلاد إلي تكدسها بالقاهرة وبعض المدن الكبري مما سبب الكثير من المشاكل العويصة الحل, والتي يقف أمامها الحاكم.
* والاقتصاد المصري توالت عليه الأزمات العاتية, فإذا تمكنوا من إيجاد حلول لبعضها نشأت مشاكل أخري لا حد لها.. ديون طائلة, وفوائد باهظة تستغرق معظم ميزانياتنا ودخلنا, وحتي ما نحصل عليه من معونات لا يتحمل الوقوف أمام هذا الخضم المتلاطم, هذا عدا ما تتحمله خزانة الدولة من ارتفاع الأسعار العالمية التي تبتلع ما نحصل عليه من إيرادات أو تسهيلات في الدفع, لقد حدث -مع الأسف- ما توقعته في كلمة كتبتها في هذا المكان من نحو خمس سنوات من أن رفع أسعار البترول سيؤدي إلي ارتفاع أسعار السلع المستوردة ارتفاعا فاحشا مما ستنعكس آثاره السيئة علي اقتصاديات البلاد.. ولقد كتبته منبها ومحذرا.. ومن أسف أن وقع المحظور.
* والتعليم أصبح مشكلة المشاكل, لقد أضحي هشا متآكلا ضحلا, أعداد كبيرة مكدسة بالمدارس علي اختلاف مراحلها, تتوه فيها مجموعات المدرسين, لا تدري ماذا تفعل بهذه الحشود التي ضاقت بها غرف الدراسة ولا تجد لها مقاعد فتفترش أرض الحجرات -جامعات أنشئت بغير حساب أو تخطيط لا تجد الأساتذة الكافين بعد الهجرة الخطيرة لهيئات التدريس إلي الدول العربية والأفريقية وغيرها, فأصبح معظم خريجيها يحملون شهادات بلا مضمون, أما العلم العميق فهو بعيد عنهم, لا سبيل لهم للحصول عليه.
* ومصيبة المصائب في الإسكان, فقد نكب بقوانين خاطئة أصلحت بأخطاء أبشع, مما جعل أزمة الإسكان أعقد من ذنب الضب, وذهبت المحاولات لحلها عبثا بلا طائل, والشباب الآن حينما يحاول تكوين الأسر التي هي عماد الوطن لا يجد مكانا ليبني فيه عش مستقبله ويبدأ حياته. لقد أدت السياسة الجاهلة في هذا المجال إلي اختناق البلاد بسكانها, فبدلا من الإفادة من بناء المساكن التي لو كانت قد أقيمت في سنوات ماضية حينما كانت التكاليف رخيصة ومعقولة, لساعدت علي حل الأزمة, أصبحت الحلول الآن عسرة التنفيذ بعد أن ارتفعت التكاليف ارتفاعا باهظا أدي إلي ارتفاع إيجارات المساكن الشعبية ارتفاعا فوق مقدور الشعب.
* ومشاكل الخدمات والمرافق لا حصر لها, الشوارع الممزقة والمملوءة بمخلفات الهدم والحفر وبقايا الزبالة, المياه العكرة والتي لا تصل إلي الكثير من السكان, النور الذي يتكرر انقطاعه في فترات متقاربة ومتلاحقة, المجاري الطافحة في أماكن عديدة بصفة مستمرة, التليفونات التي لا تعمل برغم الوعود المتكررة بإصلاحها, والمواصلات التي يعاني منها الشعب كل المعاناة.
* وحلت النكبة بآثارنا ورمز حضارتنا, ما سرق منها وهرب إلي الخارج بيع هناك وانتهي أمره, وما بقي منها صامدا آلاف السنين بدأ يخبو وينهار الآن بسبب بحيرة السد العالي, المصيبة الكبري, الدير البحري بدأت ألوانه الرائعة تمحي, معبد الكرنك بضخامته وجبروته, أصبح مهددا بالانهيار والدمار, الآثار المنتشرة في طول البلاد وعرضها غدت عرضة للزوال, إنها حقا لمأساة بشعة, موجعة.
* والأسوأ والأنكي ما دب في النفوس من يأس, فالتهاون في الواجب والإهمال والاستهتار في العمل كاد يغدو سمة العصر, المبادئ والقيم الطيبة الكريمة التي كانت سليقة المصري كادت تختفي من الوجود, وأصبحت عملة نادرة من الصعب العثور عليها, المثل العليا والإيمان العميق بالوطن ورفعته كادت تتبخر في زحمة المصائب والكبت وإهدار إنسانية الفرد أثناء حكم مراكز القوي السفاحة الجاهلة.
وبالرغم من كل هذا, فإن العلاج ممكن بالقيادة الشجاعة القوية الحكيمة التي تستعين بالخبراء والمتخصصين للدراسة الشاملة لجميع المشاكل, ووضع التخطيط العملي الحاسم للنهوض بالبلاد نهضة قوية مهما كان فيها من إيلام وإغضاب لبعض الفئات, وأن ينفذ هذا بكل دقة بعيدا عن الشعارات الزائفة والأقوال الجوفاء والنعرات المختلفة, إنها صورة لما هو كائن, وأمل فيما نرجو أن يكون في المستقبل, نضعه أمام أنظار الجميع لعل هناك من يؤمن ويعمل.. ويمضي إلي الأمام, ولا يلتفت إلي الوراء.