الذائقة الجمالية التي تصقلها القدرة علي التذوق الجمالي, مقصود بها الشعور بسيطرة العمل الفني علينا سيطرة قوية, فالشعر أو التصوير أو الموسيقي عندما تستحوذ علي الوعي, لا تترك مكانا لأي شيء آخر, وبالتالي لا تثير أسئلة عما يكمن وراء الموضوع الجمالي, ولا تبحث عن تفسير له, ففي لحظة الاكتشاف, يكون للإنجاز الجمالي تأثيره المباشر والمكتمل علينا.
ومنذ لحظة الاكتشاف, نظل متعايشين مع ما سيطر علي مشاعرنا, فننتقل من لحظة استيعاب التجربة الجمالية, إلي عملية اكتشاف جوانب تلك التجربة.
ويتضح ذلك في الأثر القوي الذي تتركه فينا الشخصيات التي نقابلها في الروايات والقصص التي نطالعها, أو الأحداث التي يتعرضون لها, كذلك المشاعر التي تثيرها المسرحيات ونحن نشاهدها, أو الشعر والموسيقي عندما نستمع إليهما, أو اللوحة التشكيلية عندما نتأملها, عندئذ نستمتع بالنفاذ والقوة والوضوح والدقة التي تمس وجداننا وعقلنا.
إن الإحساس بالجمال هو قمة سلامة العلاقة بين الإنسان والطبيعة وكل ما يحيط به, فما نطلق عليه تعبير جميل, هو ما يجعل للحياة معني, فنحرص عليها ونسعد بها ونرضي عنها.
وإذا كان المبدعون لما هو جميل قلة محدودة, فإن المتذوقين يمكن أن يصل عددهم إلي كل أفراد المجمع, وهو ما يجب أن نسعي إليه.
* لماذا يختلف الناس في الإحساس بما هو جميل: والإنسان يتعرض في المجتمع لكثير من المشاعر المختلفــة, وذوقه لا يتشكل فوق صفحة بيضاء, بل هو يتأثر بمختلف ما يحيط به أو يتعرض له أو يتصل بحياته منذ الطفولة. لذلك يختلف الناس في الإحساس بما هو جميل, ومع ذلك فإن بين الأشياء الجميلة طابعا مشتركا يجعلنا نصفها بأنها جميلة.
وقد يكون السبب في اختلاف الذوق, هو اختلاف القيم التربوية التي نشأ الإنسان في ظلها, أو تنوع عناصر البيئة التي أحاطت به في البيت والشارع والمدرسة وأجهزة الإعلام والموقع الطبيعي, كما أننا نتأثر بماضينا في الحكم علي جمال الأشياء فتتدخل ذكرياتنا في عملية تقديرنا الجمالي.
وقد يكون مصدر اختلاف الأحكام الجمالية أن الناس يخلطون بين الجمال وأشياء أخري, فهناك من يتصورون أن الشيء الجميل يجب أن يكون نافعا ومفيدا, والحقيقة أن الجمال ليس شرطا أن يقترن بالمنفعة, وقد نحكم علي الشيء بالجمال لأنه جديد أو غريب, أو نخلط بين الجمال والجاذبية الجنسية.
وكثيرا ما نعجز عن إبعاد هذه العناصر المتداخلة عند تقديرنا لجمال الشيء, وكلما استطاع المتذوق استبعاد أكبر عدد من تلك العناصر التي تتداخل مع صفة الجمال, كلما ازداد اقترابنا من إدراك الطابع الجمالي في الشيء الجميل.
وبالتالي فإن الأحداث السياسية والظروف الاجتماعية قد تتداخل مع هذا الإحساس الذهني بالانبهار والاستمتاع والراحة المرتبط بالموضوع القادر علي أن يبث فينا الإحساس بالجمال, وبالتالي فإن الأحداث السياسية والظروف الاجتماعية كثيرا ما تؤثر في مدي قدرتنا علي استخلاص الجميل من بين العناصر التي تتداخل عند اكتشاف ما هو جميل والإحساس به.
* تعدد لغات التعبير عن الحس الجمالي: ولابد من ملاحظة أن كل شكل من أشكال الفن له لغته الخاصة فيما يتعلق بالأحكام الجمالية. فما يجعل لوحة جميلة أمر مختلف عما يجعل الموسيقي جميلة, كما يختلف عما يجعلنا نكتشف الجمال في قصة أو رواية أو شخصية مسرحية.
لكن من أبرز العناصر في تقدير الجمال بوجه عام, هو صدق التعبير, فهو السمة الظاهرة في العمل الفني التي تسمح بأن نصفه بالجمال. فالشيء يخلو من الجمال إذا خلا من الصدق.
وليس معني هذا أن الصدق في ميدان الفن مطابق للصواب في ميدان البحث عما هو حق. إن الصدق في ميدان التعبير الفني متعلق بالقلب لا بالعقل -ومعني ذلك أن صدق الأشياء الجميلة هو تعبيرها القوي المخلص عن المشاعر النبيلة.
E.mail: [email protected]