أنطون سيدهم .. والقضايا الاقتصادية
** متي نتعلم الاقتصاد في التصريحات, ونحن نتعرض لإصلاح المسار الاقتصادي والمشكلة الاقتصادية؟!.. ومتي نزن الكلمة بالميزان الدقيق حتي نكسبها القوة والقيمة, وبالتالي نوفر لها الثقة والضمان والاحترام؟
لقد دأب المسئولون بعد عودتهم من زياراتهم للخارج أو بعد اجتماعهم بزوارنا الأجانب, علي إصدار تصريحات طنانة, تحمل أرقاما مهولة عما حصلوا عليه من آلاف ومئات الملايين من القروض والمساعدات لمصر, معتقدين أن ذلك دليل علي كفاءتهم ومقدرتهم وعبقريتهم في إيجاد الحلول وإصلاح الأحوال!!
وتتلقف وسائل الإعلام هذه التصريحات لتزفها للرأي العام في مظاهر دعائية عالية الدوي, زاعقة التهليل.. هذا في الوقت الذي يكون فيه الكثير من هذه المساعدات مجرد وعود أو قروض مقيدة بشروط معينة لابد من تنفيذها ليمكن استخدام هذه القروض.
* وتقرأ جماهيرنا اللهفي هذه التصريحات والبيانات, مع تهليل الصحف, فتنفرج أساريرها, ويملأ نفوسها التفاؤل بقرب فرج وهطول رخاء.. فإن هذه المساعدات والقروض ستلغي -بجرة قلم- المصاعب ومشاكل الحياة اليومية التي طفح بها الكيل وهي تتجرعها صباح مساء.. وتتدافع الأحلام فيحلم المواطن المكدود أنه سيجد مكانا داخل الأوتوبيس والترام.. وإن الحرارة ستدب في التليفونات الخرساء.. وسيجد المواطن الذي عذبه الانتظار الطويل, المأوي المناسب لبناء أسرة..
أحلام كثيرة متواضعة تسعي إلي مخيلة الجماهير وهي تطالع هذه التصريحات الزاعقة العناوين.. وسرعان ما تتبدد الأحلام عندما تمضي الشهور والأيام, والحال علي ما هو عليه, بل إلي أسوأ.. والمعاناة تزداد, والمشاكل تفترس الأعصاب.. وهنا يصاب الشعب بالإحباط, ويشعر أنه ضحية يذبحونها كل يوم بالوعود والأوهام والتخدير.. ولم تعد له ثقة بما يصدر من تصريحات , ويهز كتفيه لكل بيان, حتي ولو ثقل وزن ما به من حقائق!!.. وهنا الطامة الكبري.. فلابد من وجود الثقة كاملة بين السلطة والجماهير.. بين الحاكم والمحكوم.
* وإن ما نشر بالصحف منذ حرب أكتوبر سنة 1973 إلي آخر سنة 1976 من تصريحات للمسئولين عن آلاف الملايين من الدولارات التي قدمت لمصر في شكل مساعدات وقروض يفوق الحصر, لقد أحبطت أحلام الجماهير وتطلعاتها إلي الرخاء, ولكن بقي في أذهانها أمر واحد هو أن مصر قد حصلت علي آلاف الملايين من الدولارات.
وهنا كثر التساؤل بين الناس.. أين ذهبت هذه الملايين, في الوقت الذي تزداد فيه الأحوال سوءا؟.. وبدأت -وبصراحة- بعض أصابع الاتهام تلوح أن هناك تبديدا لهذه الأموال.. ومما لاشك فيه أن هذه الاتهامات ظالمة, لأن كثيرا من هذه المبالغ كانت وعودا لم ير كثير منها النور!.. والبعض الآخر كان قروضا مقيدة بشروط يصعب تحقيقها فلم نحصل عليها.
وهكذا جني المسئولون علي أنفسهم, وعلي الجماهير, بإسرافهم في التصريحات, وكأن المشكلة الاقتصادية تحل بالتمني واصطناع البطولات في مجال الأرقام!!
* ومع ظهور هذه الأخطاء الجسيمة, نتيجة السباق في ملعب التصريحات والبيانات التي تفتقر إلي الدقة, والشعور بالمسئولية, والالتزام فإن المسئولين مازالوا يمارسون الخطأ, وكأنهم أدمنوا اللعبة الخطرة دون مبالاة بنتائجها التي وضح تماما أنها خربت الثقة حتي في الصادق من البيانات والتصريحات.. أنهم مازالوا يسوقون التصريح تلو التصريح, وفيما يلي نماذج منها عن مساعدات وقروض نشرت بعد يومي 18, 19 يناير 1977, نرجو الله أن تتحقق فتحس الجماهير بالتغيير.. وتكون جسرا لعودة الثقة:
140 مليون دولار قرض من صندوق النقد الدولي.. أهرام 1977/1/25
140 مليون مارك من ألمانيا الغربية معونة لشبكات الكهرباء.. الجمهورية 1977/1/29
190 مليون دولار إعانة عاجلة من أمريكا.. أهرام 1977/2/3
500 مليون دولار معونة عاجلة من كارتر.. أهرام 1977/2/5
4 ملايين دولار من المجر.. أهرام 1977/2/18
125 مليون دولار قيمة زيادة معونة أمريكا لمصر (20%).. أهرام 1977/2/19
90 مليون دولار قيمة قرض من البنك الدولي.. الجمهورية 1977/2/21
600 مليون دولار من صندوق النقد الدولي.. أهرام 1977/2/28
150 مليون فرنك من بلجيكا للإسكان.. الجمهورية أول مارس 1977
200 مليون دولار تسهيلات ائتمانية.. الأخبار 3 مارس 1977
هذه حصيلة تصريحات وبيانات المسئولين في أربعين يوما, والبقية تأتي. وكأن ما انهال من تصريحات في السنوات الماضية لم يشبع هواة اللعب بالأرقام ولم يزعجهم ما ترتب عليها من نتائج خطيرة تضر بسمعة الحكم, فضلا عن استفزاز وإحباط أماني الجماهير.
* إن ما نريد أن نقوله هو أن يترفق رجال الحكم بمشاعر الشعب.. لا داعي علي الإطلاق أن نحلق به في السحاب, نسوق له أحلاما وردية ثم نهبط به إلي حالق.. وأن يترفقوا أيضا بسمعة الحكم التي يساء إليها بمثل هذه الصورة الظالمة.
لقد اتضح أن هناك بعض القروض التي خصصتها بعض الدول لجهات معينة كمرفق التليفونات, ولم تسمع هذه الجهات بهذه القروض إلا بعد فوات مدة استخدامها!!.. هل هذا معقول؟!
وكم يكون جميلا ونافعا, لو أنشئت وكالة وزارة لأمر حيوي وفي غاية الأهمية, هو شئون القروض, وأن تختص هذه الهيئة بما يأتي:
* دراسة احتياجات المصالح والهيئات والخدمات من قروض, علي أن تكون هذه الدراسات دقيقة ووافية.
* تحديد شروط استخدام هذه القروض مع تلك المصالح والهيئات, حتي لا تواجه بشروط يصعب تنفيذها.
* إبلاغ هذه المصالح والهيئات بالقروض المعقودة لتنفيذ مشروعاتها فور التوقيع علي اتفاقيات هذه القروض.
** تتبع استخدام هذه القروض, ومراقبة خطوط تنفيذ المشروعات التي عقدت هذه القروض.
** وبعد.. لابد لنا, ونحن نبني أمتنا, أن تكون خطواتنا محسوبة بالفكر والموضوعية والصدق أمام أنفسنا.. وأمام جماهيرنا.. وأمام الوطن الذي هو أمانة في أعناقنا.