على هامش الانبهار بالزحف الجارف لتكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها المتنوعة، هناك قلق يتزايد بشأن تأثيرات هذه التطورات على طبيعة الحياة والعلاقات الإنسانية. ومن بين هذه الشواغل تأتى مسألة الانشغال بقدرة الفرد على التذكر والنسيان. لا شك أن باستطاعتنا الآن، بفضل تكنولوجيا المعلومات، أن نحتفظ ونستدعى كما هائلا من المعلومات. وبغض النظر عن مدى صحةأو قيمة المعلومات التي نحتفظ بها أو نستدعيها، ففي مقدورنا أن نبحث عن أى شئ نريد أن نعرفه أو نتعرف عليه، فلا حدود لدنيا المعلومات التى تزداد اتساعا وتشعبا. ويتزامن مع هذه القدرة على الوصول إلى المعلومات والاحتفاظ بها، فقدان الفرد لقدراته الذاتية على الاحتفاظ بالمعلومات ومعالجتها ذهنيا وتمثلها نفسيا. فقد بدأنا فعليا في التنازل عن قدرتنا الذاتية في التذكر وصرنا نعتمد على أجهزة هى البديل التكنولوجى لذاكرتنا الحيوية، فأرقام التليفونات والمواعيد والحسابات والتوقعات لم تعد تحتل مساحة فى ذاكرتنا الذاتية، ولكننا نحيلها إلى مخزن خارجي، مخزن معلوماتنا، الذي لم يعد في مقدورنا العيش بدونه: التليفون المحمول، كما أن خبراتنا وتجاربنا الشاعرية أضحت عابرة ولحظية نبنيها ونهدما في عزلتنا الافتراضية.
إن الذاكرة الإنسانية هي الحياة، فلا يمكن لنا أن نتخيل حياتنا بدون ذكريات، أو بدون تلك الشبكة المعقدة من المشاعر والأحاسيس وخبرات التذكر والنسيان. فالذاكرة الإنسانية هى ذلك الشئ المبهم الذى نعيش به وفيه، ولكننا لا نمسك به، وربما لا نملك تعريفا محددا له. وكما يقول الدكتور محمد قاسم عبدالله في كتابه “سيكولوجية الذاكرة”، أن الذاكرة عملية نفسية معقدة، ولا يوجد تعريف واحد لها وإنما تعريفات متعددة، ولكننا نستطيع أن نقول بشكل عام، إن الذاكرة هي القدرة على التمثل الانتقائي selectively represent للمعلومات التي تميز بشكل فريد خبرة معينة، الاحتفاظ بتلك المعلومات بطريقة منظمة في بنية الذاكرة الحالية، وإعادة إنتاج بعض أو كل هذه المعلومات في زمن معين بالمستقبل، وذلك تحت ظروف أو شروط محددة. فالإنسان ليس مجرد كائن عضوي biological organism، ولكنه أيضا جهاز لمعالجة المعلومات an information-processing system. إن الذاكرة الحيوية خبرة خاصة، تعطي لكل الفرد هويته الذاتية، إنها خبرتنا وقدرتنا على الانتقاء: ما نستطيع أو نريد تذكره، وما نستطيع أو نريد نسيانه.
إن التطورات التكنولوجية التي أسهمت وتسهم في تطور البشرية، ليست دائما بلا ثمن، بل على العكس فإن بعضها جلب الكوارث والدمار. وفيما يخص الذاكرة الإنسانية، فإن هذه التطورات تبدو الآن وأكثر من أى وقت مضى وكأنها تغير من طبيعة الحياة. فالأمر لم يعد في حدود الآلة الحاسبة، التي أغنتنا عن حفظ جدول الضرب ومعالجة بعض المسائل الحسابية ذهنيا، فقد دخلنا عالم التطبيقات التكنولوجية التى تساعدنا وترشدنا ولكنها تسلبنا القدرة على التذكر، فكل ما تتطلبه التطبيقات الحديثة هو القدرة على الاستخدام. ويكفى الإشارة إلى أبسط الأشياء وأوسعها انتشارا، أي التليفون المحمول وتطبيقاته المتسارعة التى تكلس قدرتنا الذهنية على تذكر الأرقام والأماكن أو حتى رقم التليفون الخاص بنا. إن فقدان التليفون المحمول بات أشبه بفقدان الذاكرة، وبالنسبة للبعض أصبح فقدان الكمبيوتر الشخصى أشبه بفقدان الذات. إننا نضحي، قسرا وطوعا، بذاكرتنا الحيوية ونستبدلها بأجهزة تعويضية. فنحن ننعم بإمكانية الاحتفاظ والوصول إلى الكثير من المعلومات، ولكننا بمقابل نفقد، طوعا أو قسرا، القدرة على التذكر لأننا نفقد ذاكرتنا الذاتية الحيوية.
ويمكن القول أن فقدان الذاكرة، لا يعنى فقط فقدان القدرة على التذكر، ولكن أيضا فقدان القدرة على النسيان، فلا نسيان بدون تذكر، ولا تذكر بدون التدريب الحيوي على مقاومة أو ممارسة النسيان. والمشكلة مع تكنولوجيا المعلومات، أن الأجهزة التكنولوجية التي أصبحت كامتداد للجسد، عضويا ونفسيا، هي امتداد غير حيوي، لا يعبأ بالتذكر والنسيان، مساحة للحفظ والتخزين والاستدعاء، امتداد قد يذكرنا ويذكر غيرنا بأحداث أو صور أو عبارات أو مواقف تخصنا كثيرا ما نعتقد أنها توارت في عالم النسيان. فالذاكرة الرقمية، بما أنها تقنية وغير حيوية وخارج عتبات النفس، هي ذاكرة قاسية وباردة وحيادية وبلا رائحة، إنها عقلنا الباطن الذي أصبح خارج حدود الجسد والنفس، وخارج نطاق التحكم الذاتي.
والمسألة لا تتعلق فقط بالمعلومات ولكن بالأحاسيس والمشاعر كذلك. فقد بات في مقدورنا امتلاك الكثير من الصداقات الافتراضية، ومع ذلك نفتقد عالم الصداقات الحميمية الذي يصنع الذكريات. تماما مثل قدرتنا الفائقة الآن على التعبير عن الحزن والفرح والبهجة والتعاطف، والتي تقترن بفقدان القدرة على الإحساس بكل هذه المشاعر. فثمة فجوة بين التعبير والاحساس، وفى هذه الفجوة تضيع الذكريات. إن هذه الأنماط من الصداقات والمشاعر الافتراضية لا تنطبق عليها قواعد التذكر والنسيان، وإنما الوجود اللحظى والعابر فقط.
إن عالماً بلا ذكريات هو عالم بلا مشاعر. فنحن في حاجة لأن نتذكر وننسى، ولنا الحق في أن نشعر بأننا كائنات حية وحيوية، وليس مجرد كيانات معلوماتية ورقمية وافتراضية. ومع ذلك، فثمة قوة تكنولوجية جارفة تحولنا إلى سجلات يمكن استخدامها لأغراض عديدة تجارية ورقابية واستهلاكية، وتجردنا من المشاعر والذكريات.