تابع المصريون باهتمام بالغ ما قامت به السيدة الفاضلة صفية أبو العزم التي عرفت بسيدة القطار.. وانشغل الملايين بشهامة سيدة مصرية بسيطة بعد تداول مقطع فيديو علي شبكات التواصل الاجتماعي بظهورها تتمسك بإلحاح سداد قيمة تذكرة القطار لمجند شاب.
ولعل تلك الواقعة بكل ما تحمله من إشارات نبيلة وسلوك قويم قد تلفت النظر إلي عدة أمور من بينها الدور بالغ الخطورة الذي باتت تقوم به وسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا المعاصرة وقدرتها علي نقل أحداث بعيدة عن الأضواء إلي قلب الأضواء وكل البشر في أسرع وقت ممكن بل في نفس لحظة حدوثه ومن ثم قدرتها علي توجيه الرأي العام وشحذه نحو قضايا لم تكن علي جدولة اليومي.
بالإضافة إلي ذلك فالمؤكد أن هذا السلوك النبيل الذي أقدمت عليه سيدة القطار كان يمثل مذن عقود قليلة أمرا عاديا أو كما يقول المصريون لا شكر علي واجب فهو واجب أخلاقي واجتماعي وإنساني ظل حاضرا بين المصريين دوما دونما انقطاع فالطبيعي أن تجد شابا يقف لكي يجلس مسنا أو سيدة في وسيلة مواصلات عامة أم تجمع بشري ما. إضافة إلي تكرار مشاهد تشير إلي انتشار السلبية بيننا فصار من الطبيعي أن تجد أشخاصا يتابعون تألم فتاة أو سيدة من تعرضها للتحرش دونما تدخل أو حماية من المارة ـ ربما كان احتفاء المصريين بشيد الشهامة في محافظة المنوفية دليلا علي ذلك الاستنكار لتكرار مشاهد السلبية وعدم المبالاة التي سادت في حياتنا خلال السنوات الأخيرةـ
فهل تغير الأمر وغاب هذا السلوك عن المشهد المصري؟.. يبدو أن الاحتفاء الشديد بواقعة سيدة القطار يشير إلي تراجع هذا السلوك بين المصريين ويوضح الفيديو المتداول عشرات الركاب من أعمار مختلفة اكتفوا بالمتابعة والترقب ماذا سوف تسفر عنه الأحداث بينما امتلكت السيدة صفية مبادرة اقتحام الموقف والإصرار علي إنهاء الأزمة التي نشبت بين المجند وكمسري القطار!!!
يؤكد الدكتور جلال أمين في كتابه الشهير ماذا حدث للمصريين أن المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها مصر خلال نصف العقود الأخيرة من القرن العشرين قد لعبت دورا كبيرا في التغيير الذي طرأ علي الشخصية المصرية كما أن تآكل الطبقة الوسطي التي ظلت دوما حارسة للقيم الوسطية ومحافظة علي توازن المجتمع وتماسكه القيمي, هذا التآكل قد صنع خللا مجتمعيا وأربك المفاهيم الاجتماعية مما أدي لأن تسود قيم الفردية والتفكير الأنوي بين أفراد المجتمع لتسود عبارات مثل خليني في حالي وأمشي جنب الحيط والباب إللي يجيلك منه الريح وغيرها من المقولات التي تحمل دلالات ذات نزعة شديدة الفردية وتزامن مع ذلك تراجع شديد في قيمة العمل الجماعي والانتماء للوطن بين قطاعات من الأجيال الجديدة لذلك فإن غالبية المصريين قد تلقفوا واقعة سيدة القطار بقدر كبير من الشغف والبهجة لأنها تذكرهم بروحهم التي ينضب بريقها رويدا رويدا بفعل قسوة الواقع.
جاءت واقعة سيدة القطار لتؤكد أن الروح المصرية مازالت قادرة علي المقاومة… مقاومة الفردية والذاتية القميئة. خاصة من تأذي ملايين المصريين من تكرار مشاهد مشينة في شوارعنا وتزايد معدلات العنف خاصة ذلك الذي تتعرض له الفئات الأضعف كالأطفال والنساء والفقراء.
كشفت واقعة سيدة القطار رغم بساطتها نفس المعني الذي كشفته واقعة شهيد الشهامة رغم قسوتها…
كشفنا عن الشخصية المصرية الحقيقية الكامنة التي قد تعرضت لتشوه خلال العقود الأخيرة لأسباب كلها خارجة عن إرادة المصريين في القلب منها حجم المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المجتمع مما ساهم في خلق نسق ثقافي مغاير للثقافة المصرية…. أبرز ملامحها هي الفردية والعنف والتنمر تجاه الآخر.
رفض الآخر بكل أنواعه.. الآخر الديني أو المذهبي أو الطبقي أو حتي المختلف في اللون أو المهنة… فصرنا نسخر من بعض المهن ونهين بعض الأفكار ونتعالي علي بعض الفئات.
لم يكن المصريون هكذا…
كثيرة هي النماذج المشرقة مثل سيدة القطار وشهيد الشهامة يتفاعلون بدوافع أخلاقية وإنسانية دونما تكلف أو ادعاء لكن الأغلب للأسف هي تلك النماذج السلبية التي تملأ حياتنا….. والعنيفة التي تسيطر علي شوارعنا .. واللامبالية التي ترفع شعار وأنا مالي.
إن النماذج الإيجابية التي ذكرنا بعضها قادرة علي منحنا القدرة لاستلهام المعدن المصري واستعادته من جديد.