لا أعتقد أن هناك شيئا يخضع للمراقبة مثل الجسد، ففي مجتمعنا المعاصر أصبحت الأجساد مصدر خطورة على الصحة المرتجاة والهيئة المرغوبة. وتخضع الأجساد لمراقبة مزدوجة ذاتية وخارجية بهدف السيطرة عليها لمنع تضخمها وانفلاتها. وقد أصبحت مراقبة الأجساد عملية روتينية يومية، فنحن نراقب أجسادنا في المرايا، ومن خلال مقاسات ملابسنا، وباستخدام الموازين التي شهدت انتشارا غير مسبوق واحتلت موقعها داخل العديد من البيوت وغرف الفنادق. وكما تخضع الأجساد لرقابة ذاتية، فإنها أيضا هدفا لعيون الآخرين وتعليقاتهم وتطفلهم إما من خلال تعبيرات المديح والثناء على فقدان الوزن أو اللوم والرثاء إذا زادت الأوزان. وعلى الرغم من أن هناك عوامل عديدة شخصية وبيئية وثقافية وجينية وهرمونية تؤدى إلى زيادة الوزن، إلا أن المسئولية عن زيادة الوزن غالبا ما يتم النظر إليها على أنها مسئولية شخصية، فالشخص البدين عادة ما يتم النظر إليه على أنه شخص غير مسئول وضيف الإرادة وفاشل لأنه لا يمتلك ما يكفى من القدرة للسيطرة على هذا الخطر الداهم الذي هو جسده. ويُنظر إلى السمنة على أنها مرض حتى لو لم تكن مصحوبة بأمراض، كما توصف البدانة المعاصرة بأنها وباء رغم أنها ليست مُعدية.
إن هذه التوصيفات والمواقف من الأوزان الزائدة (السمنة والبدانة)، هي حالة معاصرة لم تتشكل على هذا النحو إلا بداية من النصف الثانى من القرن العشرين، وذلك عندما أصبح وزن الجسد موضوعا طبيا مرتبطا بالصحة والمرض، وخاصة أمراض القلب والسكر وأمراض الجهاز الحركى. ولكن هذا أحد أوجه الاهتمام، لأن المسألة لم تكن تتعلق فقط بهذا الجانب الطبى، فقد سبق ذلك تنامى الانشغال بالشكل والهيئة ورسم صورة معممة حول ما بات يُعرف بالجسد المثالى للنساء بداية ثم الرجال لاحقا. وهكذا أصبح الوزن الزائد تهديدا مباشرا للصحة وتشويها للصورة المثالية النمطية للجسد. وتشير الدراسات إلى أن كلمة “الوزن”، أصبحت هى المدخل للتعريف بالأجساد وتصنيفها لأنها تسمح بما هو قابل للقياس، وبالتالي تعريف وقياس “الوزن المثالي”، وذلك على العكسمن كلمة “الضخامة” التي كانت سائدة في السابق والتى كانت مجرد وصف غير قابل للقياس، وأكثر من ذلك فإن “الضخامة” لم تكن تحمل أية دلالة مرضية، إن لم تكن تحمل دلالة صحية ومدعاة للحسد إذا ما اتسمت بقدر من التناسق، فنقول “ما شاء الله طول وعرض”.
وبالطبع لا يمكن إنكار أن المواقف الناقدة والمتخوفة والمحذرة من الأوزان الزائدة تتسم بقدر من المصداقية عندما يتعلق الأمر برصد بعض المخاطر الصحية، ولكن ربط هذه الأمور بالشكل والهيئة والصور النمطية أدى إلى مبالغات ومغالطات. وهكذا أصبح الخطاب الطبى حول السمنة محل انتقادات، ليس لأن مخاطر الأمراض غير موجودة، ولكن لصعوبة الفصل بين المقاصد الطبية والاستثمارات المرتبطة بالجسد الصحي المثالي، والصور النمطية السائدة عن صورة الجسد.
فمن ناحية أولى: لا يجب أن نتغاضى عن حقيقة أن المسألة لا تخلو من مصالح، فالجسد “المثالى” ليس مجرد مطلب صحى محايد، بل هو موضوع لاستثمارات طبية وجمالية نعرفها جميعا، فحضارتنا الاستهلاكية والقائمة على التربح تخلق البيئة وأنماط الاستهلاك التي تؤدي إلى زيادة الوزن وتستثمر فى ذلك، ثم تدين الأوزان الزائدة، وتجعلها مسئولية شخصية، وتضع إستثمارات ضخمة من أجل انقاص ماتم اكتسابه من أوزان زائدة. وقد بات على كل شخص أن يتعلم مهارات جديدة لم نكن نسمع عنها فى السابق: مهارة إدارة الوزن.
ومن ناحية ثانية: صحيح أن الأوزان الزائدة عن الحد قد تؤدى إلى أمراض، ولكن ما يحدث هو أنه يتم وصف السمنة بأنها مرض حتى وإن لم تكون مصحوبة فعليا بأمراض، أو حتى إن تشابهت الأعراض المرضية بين أصحاب الأوزان الزائدة وغيرهم. وفى الحقيقة أن “الوزن المثالى” مسألة متعددة الأوجه، فقد يكون ذلك الوزن الذي لا يسبب أمراضا معينة، وقد يكون ذلك الوزن الذي يسمح لصاحبه أو صاحبته بإرتداء ملابس معينة، أو حتى ذلك الوزن الذي يرضي البيئة المحيطة. وفي النهاية من قال أن الهوس بالنحافة ليس مرضاً أو سببا لأمراض جسدية ونفسية؟ وعندما يتعلق الأمر بالصحة النفسية، فإن الهوس بالنحافة قد يكون هو الإشكال الفعلي.
ومن ناحية ثالثة: على الرغم من الاحتفاء غير المسبوق بالتنوع والاختلاف منذ خمسينيات القرن الماضى، إلا أن مسلسل إقصاء البدانة قد بدأ فى نفس الفترة الزمنية تقريبا أى منذ الخمسينيات. فقد أصبحت البدانة الشكل الأقل قبولا فى عالمنا المعاصر، فاختلافات الأجساد قد تكون مقبولة فى كل شئ، إلا أحجامها والتي لا تظهر على أنها اختلاف بل مرض يتحمل مسئوليته الشخص البدين. وأحد اهم الأسباب فى تصورى، هو الجانب الاقتصادى، فالتنوع يصبح مقبولا إذا كان بدون كلفة أو مصدرا للربح. أما السمنة فهى غير مربحة ومكلفة، فهى تحتل مساحات في عالم بات يختزل كل شئ بما فى ذلك الأجساد. لننظر مثلا إلى النقل الجوي، فإن شركات الطيران قد تحتفي باحترام الاختلافات المظهرية أو الغذائية (طعام حلال للمسلمين)، لأنها مسائل غير مكلفة، إن لم تكن مربحة، أما الأوزان الزائدة، فتحتاج إلى توفيرمقاعد مريحة تناسب مع الأحجام الكبيرة، وهذا يعني تكلفة على شركات الطيران، وبالتالى فإن من يستحق اللوم هم أصحاب الأوزان الزائدة، وليس الشركات التي تنقص مساحات المقاعد من أجل الربح.
وسواء تعلق الأمر بالسمنة أو النحافة، فإن الإفراط بشكل عام غير مستحب. وإذا كانت الصحة الجسدية والسلامة النفسية هى المعيار، فيمكن القول أن رهانات وتخيلات “الجسد المثالي” والتي تشكلت عبر عقود من الزمان، لا تعالج المشكلة، إن لم تكن هي في ذاتها صانعة المشكلة بالمعنى الثقافي والاجتماعي والنفسي. ولعل أسوأ ما فى الأمر هو اتهام أصحاب الأوزان الزائدة بالفشل وضعف الإرادة، لأن ما يصعب السيطرة عليه، ليس الأجساد ولا الأوزان الزائدة، بقدر ما هو أنماط الحياة والضغوط التي تفرضها عبودية “الجسد المثالي”.