هل تصلح الأخلاق أن تكون سبيلنا للإصلاح؟ سؤال قد يبدو مستفزا للبعض، وموضوعيا للبعض الآخر، وقد يكون بلا معنى لفريق ثالث. ولكن مبرر طرح السؤال، هو أمر شائع في ثقافتنا، فثمة آراء سائدة ومؤثرة تفسر سوء أو تردى الأوضاع الاجتماعية، بأنه إنعكاس ونتيجة لما يسمونه “أزمة الأخلاق” أو “أزمة الضمير”، وهو ما يعني بالتبعية أن الحل يتمثل في استنهاض الأخلاق من كبوتها، أو إيقاظ الضمائر من غفوتها. وسواء كان الحديث عن الأخلاق أو الضمائر، فإن هناك افتراض أن كلاهما يعبر عن جوهر جيد بالضرورة، والمطلوب هو نفض الغبار عن سطح هذه الجوهر، ليتجلى نظيفا طاهرا، وبهذا ترتقى النفوس ويستقيم الحال وتتحسن العلاقات والمعاملات. وغالبا ما تفسر هذه الآراء سوء الأحوال بانتقام الخالق من البشر لابتعادهم عن حسن الخلق وانصرافهم عن صوت الضمير. وبالتالي، بات من الشائع والمألوف الرهان على الأخلاق من أجل صلاح الأحوال. وسابقا قال شاعرنا الكبير أحمد شوقي “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا”. ولا أقول أن هذا النمط من التفسير هو الوحيد على الساحة، ولكن ما أعنيه أنه نمط سائد ويحظى بمشروعية وتعضده العديد من الخطابات الثقافية والدينية، وبالتالي فهو موجود ويستحق أن نناقشه.
بداية قد يكون من المفيد التفكير في مفهوم الأخلاق ذاته لأننا كثيرا ما نتصور الأخلاق وكأنها شئ متماسك ومحدد الملامح، مع أنه في الحقيقة على غير ذلك، لأنها، أى الأخلاق، ليس لها معنى أو قيمة بذاتها، هذا من ناحية، كما أن مفهوم الأخلاق نسبي إلى حد كبير وقابل للتشكيل والتوظيف حسب السياقات الثقافية والاجتماعية، من ناحية أخرى.
فمن ناحية أولى، عندما نذكر كلمة الأخلاق، فقد نظن أننا نتحدث عن شئ جيد بالضرورة، ونتجاهل حقيقة أن الأخلاق كلمة محايدةولا تعني شئ في ذاتها وتحتاج دائما إلى أن توصف حتى ندرك حالتها ونقيمها، فقد نصفها، إيجابيا، بأنها شئ حميد أو حسن(الأخلاق الحميدة أو حسن الخلق)، أو نصفها بالسوء والانحطاط عندما تكون سيئة ومرفوضة (سوء الخلق أو انحطاط الأخلاق). وهذا يعني أن الأخلاق ليس لها قيمة بذاتها، فما يعطيها القيمة هو الأسس والمقومات التي تشكلها كمعتقدات وقناعات وتصورات، ثم التطبيق الفعلي لهذه المعتقدات والقناعات. وهذه الأسس والمقومات مسألة اجتماعية، أي تحددها نظرة المجتمع لما هو جيد أو سئ، مقبول أو مرفوض. وهنا تبرز تبعية الأخلاق للسياقات الاجتماعية والثقافية، لأن المجتمع الذي نريد إصلاحه بالأخلاق، هو ذاته الذى يفرض معاييره على طبيعة هذه الأخلاق، ويعيد تشكليها وتوظيفهاوفق شروطه ومصالحه وموازيين القوى السائدة فيه. وقد نشاهد حالة من الانفصام القيمي، فيصبح الكلام عن الأخلاق والتغني بها نوعا من الرياء الأخلاقي، ليس فقط بسبب وجود فجوة بين القول والفعل، بل بسبب سوء استخدام الأخلاق وتوظيفها كأدة للتقييد والسيطرة لإعطاء صورة (زائفة) بأننا رعاة الأخلاق وحماتها.
وينقلنا هذا إلى المسألة الثانية وهي نسبية الأخلاق، فما يعتبر أمرا عاديا في مجتمع أو وسط معين قد يكون منافيا للأخلاق في مجتمع ووسط آخر. وهذه مسألة معروفة وشائعة. ولذلك، فغالبا ما نتحدث عن أخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا في إشارة إلى اختلافها عن أخلاق وعادات وتقاليد مجتمعات أو أوساط أخرى. وعادة ما تزعم أي جماعة أن أخلاقها هى الأخلاق الحميدة والمقبولة، ويتم تجميلها، نظريا، بمنظومة قيم سامية كالنبل والشرف والاحترام إلخ، بغض النظر عن طريقة تأويل هذه القيم وطريقة ممارستها فى الواقع. وفى الحقيقة أن أحد مظاهر الارتباك الثقافى والقيمى راجع إلى التناقضات الرهيبة واختلاف الرؤى والمواقف إزاء ما هو أخلاقى أو غير أخلاقى. فالأزياء والسلوكيات وحتى تناول الطعام كلها أمور تحتمل أن تكون أخلاقية أو غير أخلاقية. والأكثر من ذلك، أن الممارسات ذاتها التى نفعلها فى بعض الأوساط بوصفها أمورا طبيعية، قد تكون فى أوساط أخرى منافية للأخلاق. إننا ننظر إلى الأخلاق بمناظير متعددة، كل حسب خلفياته ومصالحه ونوازعه، وليس خافيا عنا أن النظر إلى الأخلاق بمنظار الجنس هو الأكثر شيوعا فى ثقافتنا. وفى الحقيقية أن الوضع تجاوز نسبية الأخلاق إلى عشوائية المعايير التى تشكل أخلاقياتنا، فباتت الأخلاق أدوات حرب أكثر من كونها مظلات تعايش.
ومع ذلك، لا يمكن لأى عاقل أن ينكر قيمة الأخلاق (الإيجابية بالطبع)، فمن غير الواقعى ولا حتى الممكن تصور مجتمع بلا أخلاق. ولكن هذا يتطلب إدراك أن الأخلاق متغير تابع وليست متغير مستقل، بمعنى أنها منتج اجتماعى، وأن المعايير الاجتماعية هى التى تشكلها وتعطيها قيمتها وفعاليتها. وبما أن المعايير الاجتماعية، وكذلك الدينية، هى في النهاية نسبية، لذا فإنها تضفى على الأخلاق صفة النسبية، ولا تعطيها صفة الشمولية. وعند هذا الحد يجب أن تتوقف الأخلاق ليبدأ القانون، فالقانون المرتكز على معايير حقوق الإنسان، هو الوحيد الذى يجب أن يكون له صفة الشمولية فى دولة المواطنة والتعددية والتنوع إذا أردنا لها أن تكون. أما إذا حلت الأخلاق محل القانون يحدث خلل وتشوه فى النظام الاجتماعي.