رحل عن عالمنا الفاني, العظيم طيب الذكر الدكتور مشالي الملقب بـطبيب الغلابة.. الله يرحمه ويغفر له ويجعل مأواه الفردوس الأعلي من الجنة.
وكالعادة أنا ممن لا يستهويهم الخوض في معلومات عن السيرة الذاتية لأي شخص وذلك لسهولة الحصول عليها باستفاضة من مصادر عديدة أغلبها تكون مبتورة وينقصها الدقة والاكتمال.
ما أنتوي تشريحه اليوم بمشرطي الحاد الدقيق هي زاوية خاصة جدا في حياة مشالي ربما لم يتطرق لها أحد من قبل.
أريد أن أغوص في زاوية مشالي الحزينة داخل نفسه وهو حي وحتي بعد انتقاله إلي جوار ربه, وأنا أؤمن يقينا انه في مصاف القديسين والشهداء الأبرار.
اسمحلي يا مشالي أن أقترب من زاوية حزنك وأنت علي قيد الحياة قبل أن يلتفت لك العالم كله في آخر بضعه شهور من حياتك.
أشعر وكأني أجلس أمامك أرمقك بنظرات الحب وأقرأ ما جاز في نفسك لمدة سنين طويلة وأنت تخدم بحب.. تشعر بآلام كل من حولك أيا كان دينه ولونه وأصله.. ترتجف لبكاء المسكين من مجرد نظرة واحدة فيحن قلبك الحنون ويحنو حنانا فوق حنانه.
أتاك القاصي والداني ممن لم يجد قلبا يشفق عليه ولا أذنا تنصت إليه ولا يدا تربت فوق كتفه.. أتاك طامعا في كرمك وصدرك الرحب ورحمتك ليخرج من عندك مستنشقا أنفاس الإنسانية ربما بعدما كاد يكفر بها.
لا أظنك وعظت عظة أو بشرت بدين ولكن حياتك كلها كانت عظة وتبشير.
دعني أدخل إلي عمق أكثر حساسية.. وأسألك:
كم مرة تعرضت إلي إغراءات من ضعاف النفوس ممن يتابعونك في صمت ويرون بعيونهم الحاقدة تلك الأمم الغفيرة ـ التي تأتي إليك من كل حدب وصوب ـ واختلوا بك عساهم يستثمرونك في أرباح مادية بحتة ككتابة أصناف بعينها من الأدوية دون غيرها أو تحويل لعمل إشاعات وتحاليل باهظة الثمن دون داع ومشاركتهم تلك الأرباح الهائلة ولكنك أبيت؟!!
بالتأكيد كتبت الدواء ومن قبله كنت تعطي ما لديك من عينات لغير القادرين.. وبالتأكيد طلبت التحاليل والإشاعات والفحوصات حين لزم الأمر.. ولكن بالتأكيد لم تبع إنسانا بلا داع لتغترف من ورائه مكسبا ماديا.
اسمح لي أن أخترقك أكثر أيها الملاك وأدخل مناطق قد تكون محظورة الاختراق لدي العظماء أمثالك ولكن يشفع لي عشقي لك.. وأسألك:
هل سلمت أيها الطيب من قذارة الأوغاد؟ أكاد أجزم أنك تألمت كثيرا.. وما زادك ذلك الألم إلا بريقا ووهجا بل وجبروتا في قوة الخير والرحمة المنبثقة منك.
بالتأكيد لم تسلم ممن حقدوا علي محبة الناس لك وممن كانوا يقفون بانتظارك بالطوابير بالساعات.
بالتأكيد لم تسلم من كلمات نبعت من نفوس حاقدة مريضة تكره الخير وكل صنوف الرحمة إلا إذا وظفوها لخدمة مصالحهم حتي انقضاء المصالح.
تعرضت وتعرضت وتعرضت..
وترفعت وترفعت وترفعت..
ولذا كتب لك وعليك النجاة من الشر مهما تعددت آلامك النفسية في تلك اللحظات الرخيصة النابعة من نفوس أرخص من الرخص وأرواح فقيرة جدا لا تملك سوي المال الذي خرجت وخرج من قبلك ومن بعدك من الدنيا بدون أقل القليل منه ومن كل ما يشتريه.
حتي بعد أن أسلمت وديعتك لخالقك لم تسلم من الانتقاد.
ملبسك عيادتك وأمور أخري عجيبة كل الهدف منها إزاحة النور الساطع المسلط عليك وهم لا يدرون أن ذلك النور نابع منك أنت يا شمس الرحمة.
ربما سنك كان طاحنا ولم تمتلك العافية للاهتمام بملبس أكثر فخامة أو قبولا, ربما من يشاركك بيتك كان فاقدا لصحته وقدرته علي أن يتولي ذلك وكنت مجبرا علي الرضا بما أتاحته لك عافيتك وعافية من معك وبحثت عما كان أفضل وأبقي وهو العمل الصالح الذي يكتب ويسجل بيد الله في أسفار الحياة في فراديس النعيم.
ربما لم تكن تملك وقتا أو صحة للوقوف لمراقبة أحدهم وهو ينظف لك عيادتك بالصورة المبهرة التي تخطف العيون لكنك نظفتها بحبك وإيثارك ورحمتك ونظافة قلبك ويدك وذمتك في عين الله القاضي العادل وموازينه العادلة في محكمة لا يسمح لمحام بدخولها ولا يوجد بها استئناف ألا وهي محكمة السماء.
تألمت كثيرا ولكن الله كنز لك تلك الآلام كنوزا في الحياة الدنيا والآخرة لا تشتري بمال قارون.
عشت أمينا فيما منحك الله من علم وقدرات صحية متواضعة في سنك الكبير.
وقدمت لآخر نفس ما أسعدت به كل من حولك بلا تمييز ولا محاباة.
رحلت مكرما من الكرماء وأولاد الأصول أثرياء قبل فقراء وتركت كل من عبث باسمك في محاولات بائسة للإقلال منك ومن عملك ومن طاقة الحب والرحمة الرهيبة التي كانت تسكنك يتجرعون جحيم قبحهم مع أشباههم لأنه يضرب الظالمين بالظالمين.
إنا لله وإنا إليه راجعون..
تنعم أيها العظيم بما زرعت في دنياك.. تنعم الآن بالصحة والقوة والعنفوان والسعادة في فراديس النعيم تلك المواضع التي هرب منها الألم والمرض والعجز والكآبة.. والنفوس المريضة..