وسط انغماسي واستغراقي في تحليل المتغيرات التي يفرضها عصر نحن نعيشه ونعايش تطوراته, وعلي رأسها ما يؤثر علي عالم الصحافة والنشر حسبما استعرضت في مقالي الأسبوع الماضي, استرعي انتباهي بمحض الصدفة أمر قد يجده البعض طريفا وقد يجده البعض صادما وقد يجده البعض مفزعا… إنه الخط الرقعة في اللغة العربية… وهو الخط الذي أكتب به هذا المقال, فأنا أنتمي إلي جيل مايزال يكتب بالقلم, حتي وإن كان يصادق الكمبيوتر وملحقاته من وسائط التواصل التكنولوجية -قراءة وبعض الكتابة- إلا أنه دأب علي استخدام الورق والقلم ليسطر ما يكتب وأداته في ذلك ما تعلمه منذ نعومة أظافره وهو الخط الرقعة.
كلنا يعرف الخط الرقعة المرادف للخط النسخ في اللغة العربية, وأكرر كلنا الذين ينتمون إلي جيل الشيوخ والأبناء في عصرنا… فنحن تعلمنا اللغة العربية الفصحي في مدارسنا منذ صغرنا وعرفنا أنها تختلف عن اللغة العربية العامية التي نشأنا نتحدثها في أسرنا, وكان ذلك يشمل قواعد اللغة والقراءة والنحو والشعر والنثر وإلي غير ذلك من عناصرها, بالإضافة إلي الخط. وكان تدريس الخط في اللغة العربية له أصوله وله كتابه الخاص الذي يعلم ويدرب التلاميذ علي نوعين أساسيين من الخط العربي: النسخ والرقعة حيث تتغير أشكال حروف الأبجدية بينهما كما تتغير طريقة الكتابة في ربط تلك الحروف… وكانت كراسة الخط العربي هي مجال تعلم ذلك والتدريب عليه وممارسته, ونشأنا نقرأ النسخ والرقعة لكن في غالب الأحيان جبلنا علي الكتابة بالخط الرقعة, ولعل ذلك لما يتيحه من السرعة والانطلاق في الكتابة أكثر من الخط النسخ.
إذا أصبح الخط الرقعة واقعا مسلما به مفروغا منه في حياة جيلنا وجيل أبنائنا حتي حدثت معي مصادفة غير متوقعة… وعلي طرافتها أعترف أنها هزتني بعنف وصدمتني بل وأفزعتني… فبينما كنت أسطر مقالي جاءت حفيدتي ووقفت تتأمل ثم سألتني: ماذا تكتب يا جدو؟… قلت: أكتب مقالي… قالت: أهذه لغة عربية؟… قلت: طبعا… قالت: لكني لا أستطيع قراءتها… قلت: لعل خطي غير واضح, حاولي التمهل والتعرف علي الكلمات… قالت: لا أستطيع إنها لا تماثل ولا تقارب اللغة العربية التي نتعلمها والتي نقرأها والتي نكتبها!!!… حاولت إخفاء ذهولي وسألتها: أنا أعرف أنك متفوقة في اللغة العربية, ألا تعرفين الخط الرقعة؟… قالت: كل ما تعلمناه ونقرأ به ونكتب بواسطته هو الحروف ونمط الكتابة الموجودون في الكتب وعلي شاشة الكمبيوتر وعلي لوحة المفاتيح في اللاب توب والتليفون!!!
وللوهلة الأولي صعقتني المفاجأة… هل يعقل أن جيل أحفادنا لا يتعلمون اللغة العربية الرقعة ولا يكتبونها ولا يستطيعون قراءتها؟… لكن سرعان ما أفقت علي حقيقة كنت أغفلها وهزتني بعنف: إن سيادة الخط النسخ طاغية في سائر الكتب والمطبوعات التي يتعلمون فيها والتي يتعاملون معها سواء كانت ورقية أو إلكترونية أو رقمية أو وسائط تواصل حديثة, فكل ما يقرأون وكل ما يكتبون بالقلم أو بواسطة لوحة المفاتيح الإلكترونية يعتمد علي الحروف النسخ ولا وجود للحروف أو لنمط الكتابة الرقعة في عالمهم… إذا عدم إلمامهم بها لا ينتقص شيئا من قدرتهم علي التواصل باللغة العربية قراءة وكتابة.
وهنا أدركت أن الأمر ليس مقصورا في تعليم اللغة العربية لأحفادنا, إنما هو تطور زحف ببطء علي آليات اللغة قراءة وكتابة مع تطورات العصر وتراجع الكتابة اليدوية أمام طغيان الكتابة الإلكترونية… ولعل هذا التطور لمس الكثيرين منا سواء من جيلي أو من جيل أبنائنا قبل أن يصبح واقعا في جيل أحفادنا, فكل منا بدرجات متفاوتة بات يتعامل مع الكتابة الإلكترونية ولوحات المفاتيح الإلكترونية عوضا عن الكتابة بالقلم… ولم لا؟… ألسنا نحن العاملين في حقل الصحافة والنشر قد استعضنا عن أنماط الكتابة اليدوية -علي تنوعها وعلي جمالها- بالكتابة الإلكترونية النسخ؟… أفلا نذكر العصر الذهبي للخطاطين الذين كانوا يبدعون في كتابة المانشيتات والعناوين والإعلانات بكافة أنماط الكتابة العربية وعلي رأسها الرقعة حتي أنه كان من المألوف أن يتذيل مانشيت الصحيفة توقيع كبير خطاطيها؟… لكن هذا عصر ولي وذهبت معه مفرداته وجمالياته وانسحبت ملامحه أمام تكنولوجيا جديدة ومفردات جديدة وواقع جديد.
وأخيرا… دعوني أقول… بالرغم من أنني أسطر هذا المقال بالخط الرقعة هل يعاين جيلي اندثار هذا الخط أمام تطورات العصر؟