في جمهورية الظلم تتشابه الأزمنة تتشابك الأحداث, تتكرر جيلا بعد جيل, تغرف من قاع الأمس, لتملأ ماعون اليوم وغدا وبعد غد طالما فسدت النفوس, في جمهورية الظلم دستور النفس نصوصه تتغير حسب هواها, إن فسد الهوي أرست هوانا, وأن صلح الهوي صار قواعد ومبادئ وقوانين, النفس هي النواة والأداة والحكاية, والغاية, في جمهورية الظلم يتنازل الجميع عن الحق في حماية النواة, والحق في صيانة الأداة, والحق في تحقيق الغاية, ويكتفون باللقمة والأربع حيطان, أما الحكاية فالحزن ملأ سطورها من البداية للنهاية.
الست نجاة عمرها 72 سنة, أضعف من المعافرة في جمهورية الظلم, أرملة لزوج كانت آخر مهنة عمل بها حارس خردة بعدما أدار الزمان وجهه القبيح لهم, حالخم الميسور تحول بين عشية وضحاها إلي ضيقة محكمة, ثلاث سيارات نقل تعبر الطريق ذهابا وإيابا بين القاهرة وأسوان, كان الزوج شريكا فيها يعمل تباعا مع شريكه سائق ورزق وستر وغافية وولد وبنت وفي إحدي الليالي معصوبة العينين وقع الحادث, فاضطر الرجل لبيع السيارة بالخسارة, وظلت اثنتان ولأنه لا يعرف القراءة والكتابة كان من السهل علي شريكه سرقته في ربحه ورزقه, وبدأت الخسائر تتوالي حتي باع نصيبه في السيارتين الباقيتين, وبما تبقي غطي مصاريف المعيشة ومثلما ينفذ المال ينفذ الصبر وأحيانا الأمل, وجد الرجل فرصة عمل في الأردن, سافر وبعد ثلاثة أشهر عاد إلي مصر مصابا بفشل كلوي, وفي الغربة لا ونيس, ولا شريك لاقتسام الهموم والآلام, وبعيدا عنه وطنك تعجز كل الأوطان أن تمنحك الأمان, فعاد الرجل مريضا يائسا, بائسا لا يعلم ماذا يفعل, اضطر رغم مرضه أن يعمل حارس خردة في مخزن مقابل 120 جنيها في الأسبوع, لكنه لم يحتمل كثيرا, ومات أثناء حراسته المخزن, استطاعت زوجته الست نجاة استخراج معاش من التكافل الاجتماعي قيمته الحالية 442 جنيها, وتمكن الابن من العمل, حتي الأم عملت لدي أسرة أما الأم فكانت ترعي الأبنة لأنها تعاني من إعاقة جسدية تقول نجاة: زمان اشتغلت بـ12 جنيه في اليوم, كنت بأخدم عند ناس طيبين لكن كان صعب جدا أكمل, بنتي الكبيرة عندها شلل كامل من عمر سنتين, بسبب جرعة شلل أطفال فاسدة, أخدت التطعيم مرتين وقبل ميعاد الجرعة التالتة أصيبت بالشلل, وقتها كانت ضجة كبيرة, لأن مش بنتي بس إللي اتصابت, وعملنا محاضر, لكن لا حياة لمن تنادي, وأنتهت علاقتها بالحياة الطبيعية للبنات من الوقت ده, هو حد اد الحكومة, المشكلة إن الشلل إللي جالها من التطعيم الفاسد كان سبب أنها تاخد معاش 325 جنيه, وفجأة قطعوا المعاش, رغم أن نسبة العجز عندها 80% وأدينا بنخبط في الحياة وعايشين.
لم تكن ابنة الست نجاة الوحيدة التي أصيبت نتيجة تطعيمات فاسدة في السبعينيات ولكن هذه القضية تكررت علي عدة مراحل منها ما حدث عام 2012, حينما تصاعدت أزمة التطعيمات الفاسدة بين وزارة الصحة ومسئولين بـ الرقابة الدوائية, بعد يوم واحد من تقدم الوزارة ببلاغ للنائب العام ضد مفجري القضية بتهمة إثارة البلبلة وتكدير الرأي العام, وتقدم كل من الدكتور شعبان عبداللطيف, رئيس شعبة المواد بهيئة الرقابة والبحوث الدوائية, والدكتور حسن عبدالرحمن, منسق حركة رقابيون ضد الفساد ببلاغ مضاد ضد وزير الصحة ورئيس قطاع الطب الوقائي, والعضو المنتدب لهيئة البحوث والرقابة علي المستحضرات, يتهمه بإهدار المال العام والإضرار بصحة الأطفال, وحينها قال الدكتور حسن الفجيري ـ منسق حركة رقابيون ضد الفساد ـ إن رئيس قطاع الطب الوقائي فتح النار علي نفسه بهذا البلاغ الذي سينتهي بإدانته في تلك الصفقة, مؤكدا أنهم يمتلكون وثائق ومستندات تؤكد صحة موقفهم, وتثبت عبر التحليل العلمي لهذه العينات أن هذه الأمصال فاسدة وعفنة, وبالتالي غير صالحة للاستهلاك, وستؤثر علي حياة الأطفال علي المدي البعيد, ثم تاهت القضية في الزحام والصراع السياسي آنذاك, وأصدرت الصحة بيانا حذرت فيه المواطنين من جرعات تطعيم عبر مجهولين يمرون علي المنازل.
تلك الأحوال لم تتغير لأن النفوس لم تتغير, والطمع عنوان كل الأزمنة, والضمائر الغائبة لم تجد حضورا حتي يومنا هذا, وللأسف الغلابة هم من يدفعون الثمن دائما, مواطنو الدرجة العاشرة, والعشرين الذين يبحثون عن مخرج من الضيقة فلا يجدون, فالست نجاة, شاخ جسدها مثلما حط الشيب في رأسها, مريضة ولا تستطيع شراء العلاج بانتظام, تعاني من الضغط وضعف في عضلة القلب, وانسداد في ثلاثة شرايين, يستلزم ذلك علاج مدي الحياة, هذه الحياة التي قد تنتهي قبل موعد نشر هذه السطور أو تمتد لسنوات ـ الله أعلم ـ في النهاية هي أسرة لم تغير السنين أحوالها, لم تطعم الفم المتلهف لكسرة خبز ملقاة أسفل موائد المشبعين, لم تعيد الحق المغتصب فوق مذبح الظلم, لم تنقذ الأم من قلة حيلة ولدها, هو أيضا يحمل هموم أسرة ولا يستطيع الوفاء بها, السنين لم تشف ابنتها ولم ترحم شيبتها, بل زادت الهم عجزا ومرضا بغير شفاء ولا دواء.