الأمان مفتاح البقاء, في كل العلاقات الإنسانية.. الأمان من الرفض, من الغدر, من الخيانة, من العنف والغضب, من الكراهية والتقلب, من السيطرة, من الغموض والكذب, من اللوم المستمر, من تخلي الشريك الآخر, من توصيف دائم لنقائصك وتجريف لتفردك ومناطق قوتك, الأمان من مجهر مسلط علي الأخطاء, وعين معصوبة لا تري نورك الداخلي مهما كان ساطعا.
الأمان مفتاح البقاء وكيف تبقي في ظل من يسطو احتياجه لآخرين- أيا من كانوا هم- علي صفو وراحة شراكته معك؟ فيصير معك بنصف روح وربع عقل, وعشر اهتمام, لأنه منشغل دائما بالبحث عن إشباع جوعه عبر التفاف الآخرين حوله, فعليه سداد فاتورة إعجابهم, من معيتك, من شركة أيامك, من موائد العدل الممدودة بينكما عبر عهود أقرها الدفء الأول, وليس عبر إخضاع طرف ضعيف لطرف أقوي.
تلك الفاتورة اعتراف ضمني بأنك لا تكفي وأبدا لن تكفي, ويظل يبحث عن دائرة فيما يتوهم أنها تدور حوله, يدور هو في محيط قطرها, بلا توقف, فتتوقف رئتاه عن التقاط الأنفاس التي تمكنه من الحياة والقدرة علي التمييز بين من يجب الحرص علي الاحتفاظ به, ومن يتوجب عليه الرحيل, حتي تصل إلي فقدان الأمان في البقاء في حياته حتي أن البعض يختار رحيل فلذات كبده, الأمان من استبدالك بآخر له نصيب أوفر من كل شيء, ليشبع جوعك لأن تكون مرئيا ومتحققا في مرآة خادعة لا تعكس سوي حدود حرمانك.
إذا غاب الأمان غابت كل الأشياء لذلك إذا أردت استرداد الآخر عليك أن تعيد إليه شعوره بالأمان فيك, وهذا يتطلب تخليك عن كل ما سبق, لكن لا أحد يتخلي, ولا أحد يريد التخلي وتبقي رغبات وحيل النفس الإنسانية هي المحرك لمن ارتضوا بها بوصلة لحياتهم, هي تلك البوصلة التي حرك هواها شوقية آلة إنتاج الأيتام لملاجئ الإعالة, رغم أنها والدتهم, شوقية, البطل الصامت لقصتنا القوة الدافعة للسان الرجل الصابر الباكي صابر, إنها زوجته المتسلطة.
أبلغوني أن فتاة تنتظرني وبرفقتها رجل, علمت أنها مقبلة علي الزواج وتبحث عن مساعدة مادية رحبت بهما وللوهلة الأولي تصورت أن الرجل الذي يرافقها هو العريس, ثم فوجئت أنه والدها صابر عمره 39 سنة, قال في ضحكة هيستيرية ساخرة باكية: أنا أبوها عند 39 سنة, وهي عندها عشرين سنة, فرحها آخر أغسطس, وأنا علي فيض الكريم, مش عارف حتي أشتري لها لبس ولا فرش ولا مرتبة ولا مواعين, ثم انفجر باكيا.
بعد تهدئته اكتشفت أن له من المآسي نصيبا وافرا, صابر تزوج وعمره 15 سنة, من شوقية ذات الـ18 سنة, التي تكبره بثلاثة أعوام, فظنت أن ذلك يضعها موضع المهيمن القوي, الذي ينعته بالضعف والاستكانة, رغم أنه مسالم, تركوا الصعيد بعد وفاة والديه, لأنها تريد أن تكون هي موضع الاهتمام لدي الجميع, هي محور إعجابهم وسيرة قصصهم, رحل الرجل بها درءا للخلافات النسوية, كانت الأسرة مستورة, أنجبا توءمين ثم ماتا بالتهاب رئوي, ثم رزقهما الله بابنة -هي عروس اليوم- مريم, ثم بتوأم جديدتين, ابنتين, كان صابر يعمل سائقا ويكفي أسرته, صممت شوقية علي إنجاب الولد, عكس ما هو معتاد, من أن الرجل هو من يرغب في العزوة الذكورية التي سوف تخط اسمه في دفتر الخلود كما يتوهم البعض, لكن أنانيتها كانت أقوي من صوت عقله, وأنجبت توأما جديدتين, ابنتين أيضا, وخاب ظنها وتحولت العزوة ودفتر الخلود, لقائمة طويلة من أسماء الإناث بعد أن صرن خمس بنات.
ضاق الحال, دبت معارك الأنانية بين صابر وشوقية هو يريد الاكتفاء أما هي فتريد الولد, يقول صابر بلهجته الصعيدية البسيطة, في خجل شديد: قلت لها النوع ولد أو بنت من الراجل, علشان تجيبي ولد أما نفضل نجرب, ونجيب أورطة بنات تاني ونرميهم في الشارع, أو أنك تغيريني أنا, قالت لي عايزة الولد حتي لو هاغيرك, كلام ماصدقتهوش وداني, حسيت بالغدر, الأمان الطبيعي بين الراجل ومراته راح من جوايا, حسيت أني ولا حاجة بالنسبة لها المهم الستات والعيلة تقول جابت الولد, المهم إنها ماتحسش بالنقص عنهم, رجعت لسنين فاتت لقيت أن لحظات الاهتمام بي كانت هي إللي بتسبق لقاء عايزة منه الولد, بعدها الاهتمام مافيش والروح مافيش, ومن النكد وفرة, أول ما قالت كده سبتها ومشيت برة البيت عشت أسبوع, نمت في الشارع وفي الشارع كل شيء متاح, لقيت راحتي في المخدرات وبدل ما أصرف علي بيتي, صرفت علي الترامادول, لغاية ما كل المنطقة عرفت أني باتعاطي, وماحدش بقي يستأمنني علي ميكروباصه فقعدت من الشغل, في الوقت ده كانت الكنيسة بتصرف علي البيت, واضطرينا ندخل التوأم الأول بيت أيتام في محافظة بعيدة, واتحرمت من بناتي علشان يتعلموا, وخرجنا البنت الكبيرة من المدرسة, مريم العروسة, والأهل صالحوني علي شوقية, ورجعنا لبعض.
بعد تلات شهور فوجئت أنها حامل تاني اتجننت ماكنتش عارف أعمل إيه, إحنا اتفقنا أن كده كفاية, لو شارية بناتك وجوزك, لكن مافيش فايدة جابت التوأم التالت, وبرضه بنتين!! وساء الحال جدا, بقينا مش لاقيين اللقمة, الكنيسة بتدينا 400 جنيه, لكن يعملوا إيه, حاليا بنرتب نودي البنتين التانيين نفس بيت الأيتام مع إخواتهم, لأني كمان تعبت, ورغم أني أتعالجت وبطلت المخدرات إلا أن صحتي ساءت وقلبي تعب من الضغط العصبي, وعملت جراحة تركيب دعامات في القلب أكتر من مرة, ومطلوب عملية قلب مفتوح, وطبعا ده بقي سبب أني ماقدرش أبذل مجهود فبقيت باعمل حاجات بسيطة, هايجي يوم أمشي ومارجعش, حتي البنت إللي هاتتجوز مافيش عندي أي حاجة ليها, وكله بسبب مراتي.
بعد جلسة عاصفة مع صابر انتقلنا لبحث الحالة داخل منزله, منزل أقل من البسيط, بنات بدت عليهن علامات الحرمان من كل شيء, والجوع للأمان علي موائد العهود الفطرية من الأبوين للأبناء, هجر الأمان نفوسهن أوقل تم تهجيره قسرا عبر زوجة غيبتها رغبة مجنونة, لم يكن حال البيت مفاجأة لنا, لكن المفاجأة المذهلة أن بطن شوقية كانت تمتد أمامها لترحب بنا, إنها حامل ويبدو أن الابنة رقم 8 في الطريق للملجأ!!